التكنولوجيا المالية ساحةً لمعركة عالمية!

21 مايو 2025
+ الخط -

في عام 2022، تجمّدت مئات مليارات الدولارات من الاحتياطيات الروسية بنقرة زر. لم تكن قنبلة، بل مجرّد أمر من وزارة الخزانة الأميركية بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين. وفي هذا السياق وبينما تتزاحم صور المواجهات النووية في زحمة نقاشات الحرب العالمية الثالثة، يتبلور سيناريو آخر في الأفق حول مسار صراع غالبًا لن يتضمّن مواد شديدة الانفجار بل شيفرات وبنى تحتية لأنظمة مالية رقمية، فلم نعد نواكب فقط سباق تسلّح عسكري، بل نتابع حلقات حرب باردة جديدة، سلاحها وساحة معركتها التكنولوجيا المالية (Fintech).

لا يُخفى أنّ العقوبات المالية الغربية على روسيا بعد غزوها أوكرانيا قد أعادت إلى الواجهة سلاحا لا يقلّ فتكاً عن الدبابات والطائرات، سلاح المال. فما حدث لم يكن مجرّد عقوبات اقتصادية عابرة، بل كان مشهداً تعليمياً صارخاً، وخاصة للأنظمة الثرية والنخب الحاكمة عن مخاطر الارتهان الكامل للنظام المالي الغربي. 

صحيح أن المواطن العادي قد لا يلمس تداعيات هذه الحرب المالية مباشرة إن لم يكن أحد رعايا الدول المعاقَبَة، لكن الواضح أنّ الأثرياء وأصحاب القرار بدأوا يُراجعون حساباتهم، ويتساءلون إن كان من الحكمة أن تبقى ثرواتهم وأرصدتهم مُعلَّقة بمزاج ساكن البيت الأبيض؟ 

في هذا السياق، ليست الولايات المتحدة وحدها من تتحكّم وتتجسّس وتستمر في ابتزاز الكوكب وترهيبه عبر النظام المالي العالمي، مستخدمة الدولار مثل سوط ومنظومة سويفت (SWIFT) مثل قيد على الرغم من أنّ البعض قد يجادل بأنها مستقلة تقنيًا. ففي المقابل، لا تبدو الصين بريئة ولا تضيّع الوقت بادّعاء ذلك بينما تسعى لإعادة كتابة قوانين اللعبة، لا عبر حرب تقليدية، بل من خلال مشاريعها المالية والرقمية الطموحة التي تسعى لفكّ ارتباط العالم بالدولار وتأسيس سيادتها المالية الخاصة.

أيّ محاولة لخلق منظومة مدفوعات بديلة تُقابل، إما بعقوبات أو بحرب تُشيطن كلّ ما يهدّد هيمنة الدولار

وفي خضم هذا الصراع تستمر الولايات المتحدة  في التعامل مع الدولار بوصفه حقّا سماويا، وتستميت لمنع نشوء أيّ بنية بديلة أو استبدال الدولار بما عملة الاحتياط العالمي الأبرز، سواء كان البديل البلوكشين، أو العملات الرقمية للبنوك المركزية، أو عمليات التبادل الثنائي بين الدول بعملاتها المحلية، أو حتى المقايضة بالحنطة والشعير. ولذلك، أيّ محاولة لخلق منظومة مدفوعات بديلة تُقابل، إما بعقوبات أو بحرب تُشيطن كلّ ما يهدّد هيمنة الدولار.

في المقابل، الصين لا تلعب على الهامش، بل تُراكم تحرّكاتها الاستراتيجية من اليوان الرقمي (e-CNY) إلى توسيع استخدام علي باي (AliPay) ووي تشات باي (WeChat Pay) في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وصولًا إلى بناء أنظمة دفع عابرة للحدود من دون المرور عبر نيويورك أو لندن. وبينما تستمر الولايات المتحدة باتهام الصين بالتجسّس في محاولة منها للطعن بمشروعية أيّة مبادرات صينية، تكاد الصين تنفجر من الضحك في سرّها كلما تذكرت مَن بطل فضيحة  (PRISM) الذي تجسّس على نصف الكوكب؟ فوهم الخصوصية سقط في كلّ مكان والجميع  يتجسّس. لكن الفارق أن أميركا تبيع التجسّس باسم الأمن، فيما تفرضه الصين باسم الاستقرار، وكلاهما يسعى للهيمنة.

فعندما ننظر لمنصة مثل (WeChat)  يتراءى لنا خيال بنك مركزي متنكّر؛ فتوسّع التطبيق ليصبح محفظة، وهوية رقمية، وأداة للدفع، وقناة للمراسلة، وحتى منصّة للتقييم الاجتماعي. وبينما يستمر الغرب في انتقادات الخصوصية يحاول جاهدًا بناء شيء مشابه، ومن ضمن المشاريع محاولة إيلون ماسك عمل ذات الشيء عبر منصّة إكس مُطوّرة. لكن، هل يستطيع الغرب اللحاق؟ أم أن تفوقه التكنولوجي لم يعد مضمونًا كما يظن؟

أميركا تبيع التجسّس باسم الأمن، فيما تفرضه الصين باسم الاستقرار، وكلاهما يسعى للهيمنة

وتتوسّع معركة المستقبل وراء حدود العملات الرقمية وإمكانيّة تحريرها للكوكب من حكم النظام المالي والبنكي الغربي، لتشمل من سيكتب الشيفرة التي ستتحكّم في تدفقات المال العالمي؟ من سيضع القواعد؟ من سيسيطر على شبكات الحوالات؟ ومن سيكون قادرًا على تعطيل وصولك إلى حسابك البنكي بجملة  "violation of terms"؟ ففي عالمنا اليوم، يبدو أنّ السلطة لم تعد في خزائن الذهب، بل في مراكز البيانات. والهيمنة لم تعد تُفرض بالغزو، بل بالإغلاق إذا راودتك نفسك على شق عصا الطاعة، عندها سيُقطع عنك الاتصال، وتتجمّد أرصدتك، ولربما يُحذف وجودك الرقمي من أساسه.

لم تعد معركة التكنولوجيا المالية بين الصين وأميركا مجرّد صراع بين قوتين عظميين، بل هي اختبار مصيري للدول النامية؛ إما أن تشارك في تشكيل النظام المالي الجديد، أو ستُفرض عليها شروطه على غرار ما جرى بعد اتفاقية بريتون وودز. ولكن يبدو أنّ العالم يتحرّك، ففي أفريقيا، تُظهر تجارب مثل (M-Pesa) وهو نظام تحويل مالي وتمويل أصغر عبر الهاتف في كينيا، قدرة الشعوب على تبني أنظمة دفع مرنة بعيدًا عن البنوك التقليدية، لكنها تبقى هشّة أمام غزو المنصّات الصينية مثل (AliPay)  أو هيمنة (Visa وMastercard ) الأميركية. أما في أميركا اللاتينية، فإن التحديات التي تواجه تجربة السلفادور مع البيتكوين أو فنزويلا في "البترو" الرقمي تكشف عن معضلة البحث عن استقلال مالي خارج هيمنة القطبين. وشخصيًا، بناءً على توصية من صديق خبير بتّ مهتمًا بمتابعة تطوّر التجربة السعودية، حيث تسعى السعودية منذ سنوات إلى تعزيز سيادتها المالية عبر توفير بنية وطنية بديلة تعمل بالتوازي مع فيزا وماستركارد وتقلّل الاعتماد عليهما من دون قطع كامل. أبرز هذه الحلول تشمل أدوات مثل بطاقة مدى ونظم الدفع الوطني السعودي المدعوم من البنك المركزي، والذي يعمل بالريال السعودي عبر شبكة محلية، مع إمكانيّة الاتصال بشبكة عالمية للمعاملات الدولية. 

هذه مجرّد إشارات إلى أنّ البدائل المحلية متوفّرة وتتطوّر، لكنها تحتاج مزيدًا من التكامل والدعم لتحقيق استقلالية مالية أوسع، ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن لهذه الأدوات أن تكون جسورًا للتحرّر من الهيمنة، أم أنها رغم شعاراتها مجرّد أدوات لنظام مالي قائم وستروّض في النهاية لتصبح جزءًا أصيلًا منه؟ مع ذلك أتمنى أن نكون في طور الانتقال من هيمنة الدولار إلى عالم متعدّد المراكز المالية الرقمية. لكن الحذر واجب فزوال هيمنة أميركا لا يعني أنّ القادم سيكون أقلّ قسوة. فلا نريد الإنتقال من سجان إلى آخر، آملًا في أن لا نبقى مجرّد ضحايا هامشيين في هذه الحرب الباردة الرقمية، وننهض لنصوغ استقلالنا النقدي، وننحت مسارات رقمية تعبّر عن مصالحنا لا أوامر من يملك خوارزميات المال. 

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.