انخفاض في سعر الأسرى الإسرائيليين
من ألف أسير فلسطيني وخمسين أسيرة مقابل أسير واحد إسرائيلي هو الجندي جلعاد شاليط في صفقة الأحرار عام 2011، إلى مجرّد ثلاثين أسيراً فلسطينياً مقابل كلّ أسير إسرائيلي تجري حالياً مقايضتهم في إطار عملية تبادل الأسرى التي نصّ عليها وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، ليبدو أن قيمة الأسرى الإسرائيليين تشهد انخفاضاً حاداً بسعر صرفها في سوق عمليات تبادل الأسرى اليوم.
ما يعزّز هذا الاستنتاج، الفتور، لا بل حتى البرود أحياناً، والمماطلة الوقحة اللذان اتسم بهما سلوك حكومة بنيامين نتنياهو في كلّ ما يتعلّق بموضوع حرية أسرى العدو، وما من شأنه أن يعيدهم إلى بيوتهم: من طريقة التعاطي مع أهاليهم، إن كان عبر تطنيش طلباتهم الاجتماع مع المسؤولين، أو في قمع تظاهراتهم من الشرطة، وهي تظاهرات أعارتها حكومة نتنياهو الأذن الطرشاء، وصولاً إلى التعطيل المتعمّد والمتكرّر لكلّ مفاوضات التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية قبل الخضوع في النهاية لأوامر صارمة من الإدارة الأميركية.
لا بل إنه يمكنني القول، وبعد استعادة كلّ ما مرّ به هؤلاء الأسرى من إهمال وصل إلى حدّ الإيحاء برغبة التخلّص منهم خلال المعركة، إنّ سعر الصرف الحالي والمشار إليه أعلاه، يبدو حتى مبالغاً به. خصوصاً بعد ما سُرّب عن التعليمات السرّية التي كشفها الإعلام العبري عن تفعيل بروتوكول "هنيبعل"، أي قتل الأسرى عند الاضطرار للتخلّص من عبئهم الأخلاقي على حكومتهم، ولتلافي لحظة التبادل المرّة وصورتها المذلّة، وذلك عبر قصف كلّ مكان في غزّة عشوائياً دون أيّ اعتبار لإمكانية أن يكون هؤلاء الأسرى هم أيضاً موجودون في أماكن القصف.
قبول إسرائيل مقايضة ثلاثين أسيراً فلسطينياً مقابل كلّ أسير من أسراها، قد يكون للتعويض ولتدارك ما سلف من سلوكها المريب تجاههم
وبالفعل، نجح الجيش الإسرائيلي في قتل العديد منهم كما كشفت المقاومة بعد ذلك، وآخرهم كانت عائلة أحد الأسرى الذين جرى تبادلهم السبت الماضي، والذي كان أسيراً مع عائلته (الأرجح في أماكن متفرّقة)، فنجا وحده من دون زوجته وأولاده الذين تبيّن مقتلهم بالقصف الإسرائيلي.
فأنت لا يمكنك أن تمارس ذلك النوع من القصف الذي يصحّ وصفه بالإبادي، والذي لم يوفّر زاوية في القطاع إلا وألقى عليها قنابله ذات الأوزان الخرافية، وتدّعي بعد ذلك أنك تكترث لأسراك الموجودين في مكانٍ ما، في تلك الجغرافيا التي تقصفها إلى حدّ تحويلها إلى غبار.
ولذا يبدو من المغري الاستنتاج، إن قبول إسرائيل مقايضة ثلاثين أسيراً فلسطينياً مقابل كلّ أسير من أسراها، أي بما يفوق قيمتهم لديها فعلياً، قد يكون للتعويض ولتدارك ما سلف من سلوكها المريب تجاههم، ولتبديد ما أوحت به طوال خمسة عشر شهراً من استخفاف ضمني بحياتهم.
لقد فاضلت إسرائيل المجروحة الكبرياء العسكري والأمني إثر عملية طوفان الأقصى المذهلة، وطوال مدّة حرب الإبادة، بين تقبّلها مساومة عدوها على حياة أسراها وبين ذلك الكبرياء الذي يدفعها لاستمرار الحرب، فاختارت الأخير.
ومع ذلك، لا يسع المراقب من بعيد إلا أن يُصاب بالدهشة لهذا التغيّر المفاجئ في الرسائل المعنوية التي كانت إسرائيل تصرّ على تصديرها للرأي أو الوعي العام في كلّ عملية تبادل، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة. إذ إنها كانت تحرص على الظهور بمظهر الدولة الوفية لمواطنيها، دولة ترفع قيمة الفرد فيها فوق كلّ اعتبار، ولا تكلّ ولا تملّ من البحث عنهم والمطالبة بهم ولو كانوا مجرّد رفات. تماماً كما حصل مع الطيار المختفية آثاره منذ نهاية الثمانينيات رون آراد، ولا زالت تبحث عن رفاته، أو ما فعلته مؤخراً من إعلانها عزمها على استرداد رفات جاسوسها في سورية، إيلي كوهين، من دمشق، والذي كانت السلطات السورية قد أعدمته بعد إدانته وكشفه في الستينيات.
لقد تغيّرت رسائل إسرائيل إلى الوعي العام مع هذه النسخة من حكومة نتنياهو. تبدّل محتواها بشكل كبير خلال هذه الحرب ليس بما يخصّ إسرائيل فحسب، بل بقيمة مواطنيها. لم تعد حياتهم أولوية، ولنكن أدق، لم تعد كذلك بالمقارنة مع رعب نتنياهو وخوفه من إجباره على ترك منصبه وما يؤمنه ذلك من حصانة، وهذا ما أثار دهشة الشارع الإسرائيلي أولاً ثم غضبه، وهو غضب سوف يجد تعبيراته في المرحلة المقبلة من الحياة السياسية في إسرائيل خصوصاً مع مضي نتنياهو بسلوكه ذلك الذي أفقده ثقة الجميع.
سعت إسرائيل دوماً لتثبيت فكرة عنصرية تقول بتفوّق قيمة اليهودي على ما عداه، وهذا ما جعلها تقبل دائماً بدفع أثمان عددية عالية مقابل كلّ أسير أو جثة أسير
لقد سعت إسرائيل دوماً لتثبيت فكرة عنصرية تقول بتفوّق قيمة اليهودي على ما عداه، وهذا ما جعلها تقبل دائماً بدفع أثمان عددية عالية مقابل كلّ أسير أو جثة أسير (وبالطبع كان ذلك سهلاً عليها كونها تحتل فلسطين وتأسر أهلها ساعة تريد)، وهو أمر استغلته المقاومة اللبنانية مثلاً في كلّ عمليات التبادل التي قامت بها مع الكيان خلال العقود الثلاثة الأخيرة، خاصة في 2008، فقد أعاد حزب الله جثتي الجنديين الإسرائيليين (ألدار ريغيف وآهود غولدسوار) إلى إسرائيل إضافة لتقرير حول رون آراد، مقابل إطلاق إسرائيل سراح سمير القنطار (الذي عادت واغتالته) وأربعة أخرين من مقاتلي الحزب إضافة لعشرات الجثث والرفات لمقاتلين فلسطينيين وعرب.
اليوم يبدو إن الانخفاض في القيمة لم يصب نظرة إسرائيل لمواطنيها فحسب، بل نظرة هؤلاء المواطنين إليها وإلى مستقبلهم فيها أيضاً، وهو ما تجلّى في الهجرة النهائية المتزايدة، خصوصاً في الأوساط العلمانية المتعلّمة والمحترفة، بشكل غير مسبوق إلى خارج الكيان.
والمثير للاهتمام أن إسرائيل تبدو أسيرة نفسها الجديدة، لا تُراجع ما تفعله، بل تثابر في بثها لصورتها الهمجية كما اكتشفها العالم في الخمسة عشر شهراً الأخيرة مثبّتة إياها في الوعي العام، غير مدركة لعمق الأذى الذي تسبّبت به لنفسها أولاً، لمواطنيها ثانياً، ولكلّ من تابع بألم وعجز عنفها الإبادي الذي وشمته بالنار في الذاكرة الإنسانية.