سورية.. أملٌ في تحقيق العدالة الانتقالية
لم يكن مفاجئًا بالنسبة لأي متابع للأحداث في سورية ما يحدث الآن بعد سقوط نظام بشار الأسد، من الساحل وجباله في الغرب إلى جبل العرب في الجنوب، فهو تحصيل حاصل بعد سنوات وعقود طويلة من العنف الظاهر والباطن والأحقاد المتراكمة بعد 14 عامًا من الحرب التي سماها البعض ثورة والبعض الآخر حربًا كونية على أرض سورية (كل حسب موقعه)، لكنّها في الحقيقة ثورة تحوّلت إلى حرب.
بالنسبة للساحل، تشكّل هذه المنطقة الجبلية والساحلية جزءًا مهمًا من الجغرافيا السورية، ومن النسيج الاجتماعي والديني والثقافي والعرقي في سورية، وفيها تنوّع ديني وثقافي وإثني فريد، كما أنها منطقة لها حضور كبير وعريق في تاريخ الدولة السورية الحديثة والمعاصرة.
ولطالما ارتبط الساحل السوري بالنظام السابق الذي هو الآخر ارتبط بعائلة الأسد لمدّة 50 عامًا ونيف، خصوصًا البلدات والقرى المجاورة لمدينة أو بلدة القرداحة التي تنحدر منها عائلة الأسد. ولأنّ هذه العائلة الحاكمة لم تكن على ودّ مع أطياف كثيرة، فإنها حاولت على مدى سنين حكمها أن تكسب ودّ بعض أبناء منطقة الساحل، وكان الأمر كذلك، حتى آخر أيّام الحكم.
أدّت الحرب إلى حدوث شرخ داخل المجتمع، إذ انقسمت البلاد، وهذا الانقسام مسألة طبيعية في بلد ومجتمع يشهد حالة من الاضطرابات السياسية. لكن الأخطر هو أن يتم تقسيم المواطنين على أساس عرقي وإثني وطائفي، وهو تقسيم بلغ في سورية أوجه خلال سنة 2011، لكن إرهاصاته كانت قائمة منذ أحداث الثمانينيات في حلب وحماة وما قبل ذلك.
أدّت الحرب إلى حدوث شرخ وانقسام داخل المجتمع السوري، وهذا أمر لا يمكن إنكاره
من خلال متابعة هذا الوضع المأساوي، نرى أنّ عددًا من "المؤيدين" لما حدث من جرائم بشعة في الساحل السوري هم من مناطق شمال البلاد إدلب وحلب وحماة (من دون أن يعني هذا أن يكون كلّ السنة كذلك)، والذين خرجوا ضدّ النظام منذ أوّل الأحداث وعاشوا في المناطق المحرّرة من قبضة نظام الأسد، وهم اليوم يمارسون ما يمكن تسميته بـ"العدالة الانتقامية" ضدّ سكان الساحل الذين بقي معظمهم ساكتًا منذ أيّام "الثورة" الأولى، واصطف الكثير منهم مع المؤيدين للنظام السابق الذي كان هو الدولة السورية، أي أنهم وقفوا مع الدولة، وهو الأمر الذي أغضب المعارضين آنذاك، ولا يزال الغضب متفجّرًا حتى اللحظة.
ربّما كان خطأ جزء مهم من بعض أهل الساحل السوري (ليس كلهم) هو رهانهم على نظام الدولة السابق وتصديقه، وقبولهم به بما فيه من عيوب وأعطاب كبيرة أدّت بالبلاد إلى الهاوية، خشية الفوضى، بيد أنّ الفوضى كانت هي هدف النظام السابق ليبقى، قبل أن يخطئ القّفز. يرى كثيرون من الذين أيّدوا الثورة اليوم أنه يجب معاقبتهم على ذلك، لأنّ هذه المناطق خلال سنوات الحرب لم تتضرّر ولم تسمع أصوات الرصاص والقصف، لكن هذا الخطأ لا يبرّر أن يرتكب فئة من "الثوار" جرائم على أساس عرقي طائفي، وما تفجّر منذ أزيد من شهرين ولا يزال من عنف وعنف مضاد كان نتاج تضييق ووعيد وتهديد بدأ منذ اليوم الأوّل لسقوط نظام الأسد، ويجب أن يتم تجاوز هذه الحالة لبناء سورية التي تسع كلّ السوريين.
في المشهد السياسي والاجتماعي السوري، من المهم إدراك أنّ ليس كلّ من خدم تحت عباءة النظام السابق هو مجرم حرب أو فاسد، وليس كلّ من يصرخ اليوم بشعارات الثورة التي تُلهب حماس الجماهير يريد الخير للبلاد، وهذا أمر يدركه جيّدًا الرئيس الحالي أحمد الشرع وفريقه الحكومي، وقد أبانوا عن هذا الإدراك في أكثر من مناسبة وخطب، وعبر مبادرات وطنية شاملة، أهمها المؤتمر الوطني.
تستحق سورية أن تتحقّق فيها عدالة انتقالية، وأن تنتهي فيها فصول الماضي وتُطوى الصفحات الملطخة بدماء الأبرياء
مثله مثل أيّ نظام عربي معطوب، أتقن النظام السابق تضييع الفرص السياسية المهمة التي كان بإمكانها أن تجنّب البلاد حمام الدم، فما من فرصة أتت إلّا وتعنّت في قبولها. فمنذ وصول الأسد إلى السلطة عام 2000 إلى "ربيع دمشق"، فاندلاع الثورة، ثمّ مفاوضات جنيف 2014 ومفاوضات أستانة، والتفاهمات بين تركيا وروسيا وإيران... كلّها فرص كان يمكنه من خلالها أن يُدمج قوى المعارضة في السلطة، وبدل أن يُنشئ مؤسسات تحقق العدالة الانتقالية وترد الاعتبار لمئات الآلاف المتضرّرين من القمع خلال عهد حافظ الأسد، استمرّ الابن على نفس النهج.
أقل ما كان يمكن فعله مع بداية عهد الأسد الابن هو نقل تجارب دولية في الانتقال السياسي السلمي خلال سنوات الاحتقان السياسي والاجتماعي، وإنشاء مؤسسات تقطع بحزم مع سنوات الرصاص والعهد البائد، مثل هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب التي أسّست لمصالحة بين فئة عريضة من المعتقلين السياسيين وضحايا الاختفاء القسري مع الدولة المغربية، وجنّبت البلاد مواجهة كانت لتحدث حتما بين فئات المجتمع "المؤيدة" لسياسات الدولة والمعارضة لها، وعلى الأقل كذلك دمج فصائل سياسية منتمية لتيارات الإسلام السياسي في السلطة واستيعابها. لكن النظام السابق في سورية لم يُقحم حتى التيارات العلمانية المنافسة له في دوائر القرار، فما بالك بالإسلامية.
إن ما يحدث اليوم يكشف لنا خطورة العطب الذي تعيشه المجتمعات العربية، العطب الإنساني أولا والديني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي أيضا. ونركّز بشدة على العطب الديني الذي بسببه تُذكى الصراعات، فمنذ أن انطلقت الأزمة في سورية، وحتى قبلها بسنوات، ركزّت فضائيات عربية دينية متعدّدة على التحريض الطائفي والديني، خاصة ضدّ الشيعة والعلويين والدروز، وأعادت إلى الواجهة صراعات بائدة حدثت في القرون الغابرة، تقف اليوم حاجزًا أمام قيام الدولة الحديثة والمجتمع الحداثي الذي يقبل التعايش السلمي في البلدان العربية، وانتقل هذا التحريض إلى المساجد ودور العبادة والأماكن العامة، ما زاد من حجم المصيبة.
يكشف لنا أيضا حجم الكارثة واللعبة "القذرة" التي لعبتها أنظمة سياسية محدّدة في بلدان الوطن العربي، حين فتحت الباب مشرعًا أمام الحركات المتطرّفة (السنية والشيعية) منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973 وقبلها وما تلاها، فقط لكي تبقى هي قائمة ومسيطرة على الدولة، وذلك انطلاقًا من المبدأ الساقط أخلاقيا وتاريخيا "فرِّق تسُد".
هذه الأحداث الدامية التي نراها ليست الأولى أو الأخيرة في العالم، وثمّة بلدان كثيرة سقطت فيها أعتى الديكتاتوريات، مثل دول أميركا اللاتينية والبرتغال وإسبانيا ودول شرق أوروبا، وحدث فيها ما حدث من مواجهات دامية، لكنها استطاعت النهوض من أتون الحرب والخراب، وهي تجارب من المهم التمعّن فيها وفي قدرتها على تجاوز النعرات الطائفية وتأسيس عدالة انتقالية جامعة لكّل أطياف المجتمع، ودولة مؤسسات حديثة مبنية على الديمقراطية والقانون، وليس على السيف والشوكة والانتقام.
اليوم، على السوريين أن يفهموا جيّدا أن أسلوب الانتقام لن يؤدي بالبلاد إلى أي شيء، اللهم إذا كانوا هم أنفسهم لا يريدون أن يتقدّموا ببلادهم، وأرادوا أن يبقوا حبيسي فترة الحرب والمواجهة مع النظام الساقط، ثم المواجهة مع بعضهم البعض، وحينها تتراكم الأحقاد والضغائن، فتلك قصة أخرى لن تنتهي، فيما العدو الإسرائيلي، الذي بات التصالح معه في هذا الزمن المعطوب وجهة نظر وليس خيانة، يسارع لينقض ويقضم المزيد من الأراضي السورية ويجثم على أنفاس السوريين، هذا إذا لم يكن يخطّط لإبادتهم هم أيضًا، كما يفعل في قطاع غزّة والضفة الغربية، وكما فعل على امتداد ثمانين عامًا في عموم فلسطين المحتلة، فهو يرى أنّ الجزء الثاني أو الثالث من مسلسل نشأته قد بدأت فصوله للتو.
تستحق سورية أن تتحقّق فيها عدالة انتقالية، وأن تنتهي فيها فصول الماضي وتُطوى الصفحات الملطخة بدماء الأبرياء وأبناء الوطن، وتستحق الأرض التي تعب ترابها وأشجارها من ارتواء دماء أبنائها أن ترتاح من القتل والدمار، وأن تنتهي مظاهر التطرّف والاقتتال، وتستحق دمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية وكلّ المدن الكبرى والتاريخية أن تكون مساجدها التاريخية العمرية والأموية والعباسية والعثمانية وغيرها صروحًا دينية تستوعب كلّ الطوائف والأديان، وليس مكانًا لنشر الحقد والغل المؤدي للقتل والعنف.
يكفي ما حدث في السابق، سواء قبل 14 قرنا أو قبل 50 عاما، أو قبل عشر سنوات، أو قبل شهور وأيام فقط، من مآسي، علّها تكون درسًا باهظ الثمن يقف عن هذا الحد.