كيف أصوم في زمن الجوع والطائفية؟
كبرتُ وأنا أرى رمضان شهرًا للرحمة، للصفاء الروحي، وللتواصل العميق مع الله، كنت أصوم وأنا أؤمن أنّ الامتناع عن الطعام والشراب ليس مجرّد طقس ديني، بل تجربة إنسانية تعلّمنا الصبر، التواضع، والإحساس بالآخرين، كنت أصدّق أنّ الصيام يجعلنا أكثر قربًا من الفقراء، أكثر وعيًا بجوعهم، وأكثر تعاطفًا مع ضعفهم.
لكن كيف لي أن أؤمن بذلك اليوم؟ كيف أصوم بينما أرى أنّ الفقر لم يعد تجربة مؤقتة بل واقعًا دائمًا، لم يعد اختبارًا إلهيًا بل نتيجة مباشرة للظلم، للحروب، للطائفية، وللاستبداد؟ كيف يمكنني أن أواصل الإيمان بشعائر كانت يومًا رمزًا للسلام، لكنّها اليوم أصبحت ساحة أخرى للصراع والتفرقة؟
حين يصبح الدين قيدًا بدل أن يكون ملجأً
في الأيّام الأخيرة، لم يعد الدين في حياتي كما كان، لم يعد مكانًا للأمان، بل تحوّل إلى سلاح يشهره البعض في وجه الآخرين. أصبح أداة لتقسيم الناس، لتصنيفهم، للحكم عليهم، ولإقصائهم. رأيت كيف تحوّلت الشعائر الدينية إلى وسيلة لإثبات الولاء، وكيف صار الإيمان نفسه موضعَ شكٍ دائم، إلا إن أظهرته كما يريد الآخرون.
في بلدي، لم يعد الصيام قرارًا فرديًا، بل صار واجبًا مجتمعيًا مفروضًا بقوّة العادة، وبقوة الخوف أيضًا! لم يعد فعلًا روحيًا، بل تحوّل إلى بطاقة هوية، إلى دليل على الانتماء، وإلى إثبات على الطاعة، وإن كنت لا تصوم، فستُسأل: "لماذا؟"، وكأنّ السؤال لا يحمل مجرّد استفسار بريء، بل استنكارًا، اتهامًا مبطنًا، وربما حتى تهديدًا.
إذا كان الصيام وسيلة لنشعر بجوع الآخرين، فما معنى أن يصوم من هو جائع أصلًا؟
لكن الأسوأ من ذلك كلّه، أنني رأيت كيف يتم استخدام الدين وسيلة للسيطرة، كيف أصبح الدين غطاءً لحكم مُمنهج، يدّعي الطهارة بينما يغرق في الطائفية، في القمع، في الإقصاء، وفي تبرير الفساد والظلم، كيف يمكنني أن أصدّق بأنّ الدين في جوهره عدالة ورحمة، بينما أراه يُستخدم ليُشرعن العنف، ليصنع الجدران بين الناس، وليجعل الفقر قدرًا وليس مسؤولية؟
الصيام في زمن الجوع
لطالما قيل لنا إنّ الصيام يجعلنا نحسّ بمعاناة الفقراء، لكن في سورية اليوم، الفقر لم يعد تجربة روحية مؤقتة، بل أصبح واقعًا لا ينتهي؛ هناك من لا يملك ما يكفي ليأكل، ليس في رمضان فحسب، بل طوال العام؛ هناك من طُرد من عمله لأنه لم يكن على "الهوية الدينية الصحيحة"، وهناك من ينتظر المساعدات ليحصل على أبسط مقوّمات الحياة.
إذا كان الصيام وسيلة لنشعر بجوع الآخرين، فما معنى أن يصوم من هو جائع أصلًا؟ أي معنى له حين تكون معدة الفقير فارغة ليس تعبّدًا، بل قسرًا؟ كيف لي أن أصوم بينما الجوع لم يعد عبادة بل عقوبة؟
لم يعد الدين مكانًا للأمان، بل تحوّل إلى سلاح يشهره البعض في وجه الآخرين
أقف أمام هذه الأسئلة عاجزة عن إيجاد إجابة تُقنعني، أشعر أنّ الصيام، كما كنت أعرفه، فقد معناه، فقد روحه، فقد تلك الطهارة التي جعلته فعلًا خالصًا بين الإنسان وربه؛ لم أعد أستطيع أن أصوم وأنا أرى كلّ هذا التناقض، كلّ هذا الظلم، كلّ هذه الفروقات الصارخة بين من سيصومون لأنهم يريدون، وبين من سيصومون لأنهم لا يملكون خيارًا آخر.
كيف أصوم اليوم؟
لا أريد أن أكون جزءًا من نفاق اجتماعي يجعل الصيام واجبًا مفروضًا، بينما يغضّ الطرف عن الظلم الذي يحيط بنا. لا أريد أن أشارك في طقس ديني فقد الآن جوهره، وأصبح مجرّد مظهر يجب الالتزام به خوفًا من نظرات الآخرين، أو من تصنيفاتهم الجاهزة، لا أريد أن أمارس عبادة تحوّلت من تجربة روحية شخصية إلى علامة سياسية، إلى سلاح يستخدمهُ البعض ضدّ البعض الآخر.
لست أبحث عن استفزاز أحد، ولست أدعو أحدًا للتمرّد أو للمقاطعة، لكنني أريد أن أكون صادقة مع نفسي، أريد أن أبحث عن معنى حقيقي للدين، أريد أن أمارس إيماني أو حتى شكي، بحرية، من دون خوف من أحكام الآخرين، ومن دون أن أضطر للامتثال لمجتمع لم يعد يرى في الدين إلّا وسيلة لفرض السيطرة، بدل أن يكون طريقًا للحب، للرحمة، وللإنسانية.
في النهاية، ليس امتناعي عن الصيام رفضًا لله، بل رفضٌ لما فُرض عليّ باسمه.