ما بعد الهاتف الذكي
ماذا نتوقع عندما يتعاون عرّاب الذكاء الاصطناعي، سام ألتمان، مع أيقونة تصميم أجهزة أبل جوني إيف؟
إعلان "OpenAI" لجهازها القادم ليس مجرّد منتج جديد، بل محاولة لإعادة تعريف علاقتنا بالتكنولوجيا في زمن ما بعد الهاتف الذكي. ففي عالمٍ يتسارع فيه إيقاع التغيير التكنولوجي، يبدو أن إعلان الشركة تطوير جهاز جديد يحمل اسمًا رمزيًا (io) يتجاوز مجرّد كونه خبرًا تقنيًا عابرًا. فهو يحمل في طياته احتمال ولادة جيل جديد من الأجهزة، قد يُنظر إليها في المستقبل كما نظرنا إلى الهواتف الذكية حين أطاحت الهواتف التقليدية قبل عقدين من الزمن. فهل نحن حقاً على أعتاب ما بعد الهاتف الذكي؟ وما الذي سيختلف عن المحاولات الشبيهة مثل "humane AI PIN" أو "Rabbit R1"؟ أم أنّ ألتمان تحوّل إلى غاوي فرقعة؟
على مدى السنوات القليلة الماضية ارتبطت "OpenAI" في أذهاننا بالبرمجيات والنماذج اللغوية المتقدّمة، وعلى رأسها "GPT"، التي غيّرت شكل التفاعل مع المعرفة والمحتوى. لكنّ انتقالها إلى تصنيع الأجهزة يطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا تنتقل شركة متخصّصة في الذكاء الاصطناعي من تطوير الخوارزميات إلى تصميم العتاد؟ قد تكمن الإجابة في تنامي الإدراك والقناعة بأن الذكاء الاصطناعي لن يصبح مكوّنًا عضويًا من حياتنا اليومية، من دون وسيط جديد، جهاز متخصّص يُصمّم من الأساس ليتفاعل مع الإنسان بطريقة طبيعية، صوتية، قائمة على النيّة والسياق، لا التطبيقات والأزرار أو الشاشات.
الهاتف الذكي، رغم كلّ مزاياه، بات عبئًا في كثير من الأحيان
وما يعزّز أهمية هذا التحوّل، تشكيلة الأطراف المشاركة، جوني آيف، مهندس التصميم الأسطوري لمنتجات أبل، ومجموعة سوفت بانك اليابانية التي تسعى منذ سنوات للتموضع في مركز معادلة الذكاء الاصطناعي العالمية، على الرغم من بعض مغامراتها الكارثية في السنوات الأخيرة. هذه ليست مجرّد صفقة تمويل، إنها إعلان نيات. فالميزانية التي تجاوزت 6 مليارات دولار لا تُصرف عادةً على منتج تجريبي، بل على مشروع يُراد له أن يشكّل لحظة فارقة.
ولكن هل نحتاج فعلًا إلى جهاز جديد؟ من الناحية النظرية، نعم. فالهاتف الذكي، رغم كلّ مزاياه، بات عبئًا في كثير من الأحيان. إدمان الشاشات، التشتّت الرقمي، وفوضى التطبيقات كلّها أدّت إلى ما يمكن تسميته بالتشبّع التكنولوجي، حيث بات الكثيرون يبحثون عن أداة ذكية لا تسرق انتباههم، بل تساعدهم على استعادته.
الجهاز الجديد، إن صدقت التوقّعات، قد يقدّم بديلاً يقوم على التفاعل الصوتي، وعلى دمج حقيقي للذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة اليومية. كأن تقول له: "نسّق جدولي للأسبوع القادم"، أو "اختر لي أفضل وقت للاتصال بفلان"، فيفهم السياق، يتعلّم منك، ويؤدي المهمّة من دون أن ترى شاشة أو تضغط زرًا، باعتباره رفيقاً رقمياً مطوّراً لا يحتاج إلى شاشة للتواصل معه.
يبحث الكثيرون عن أداة ذكية لا تسرق انتباههم، بل تساعدهم على استعادته
لكن، هل هذا كافٍ؟ قد تكون الإجابة أكثر تعقيداً. فالمستخدم العادي لا يكتفي بالمساعد الشخصي الموجود أصلًا على هواتفنا. هو يريد الترفيه، الألعاب، الفيديو، التصوير، والشبكات الاجتماعية. وهذه مجالات لا يزال الهاتف الذكي يتفوّق فيها. فإذا كان الجهاز القادم عاجزًا عن تقديم تجربة غنيّة في هذه الجوانب، فستبقى قيمته محدودة مهما كان ذكيًا أو مبتكرًا، إلا إن كان مجرّد تطوير للهاتف الذكي وإضافة إليه، أو أنّ طبيعة حياتنا وتفضيلاتنا كلّها على حافة الانقلاب.
ثمّة من يرى أنّ هذا المشروع مدفوع بهوس تقني أكثر من كونه استجابة لحاجة فعلية. مهندسو وادي السيليكون يعيشون هاجس إعادة اختراع العجلة باستمرار، وقد يرون في الهاتف الذكي عائقًا أمام طموحاتهم. لكن في المقابل، هناك أيضًا تعطّش حقيقي لدى المستخدمين لتجربة تقنية أقل إزعاجًا وأكثر فاعلية. وقد يكون الحل في إيجاد جهاز جديد، لا يلغي الهاتف الذكي بالضرورة، بل يكمّله بوظيفة أكثر إنسانية وذكاءً.
من المبكّر الحكم، فشكل الجهاز، وطريقة عمله، ومدى قبوله في السوق لا تزال غامضة. قد تكون النتيجة مجرّد نسخة محسّنة من محاولات سابقة، ولنتذكر (على الرغم من تعصب معجبي أبل) أن ستيف جوبز ليس أوّل من اخترع الهاتف الذكي، هو فقط كان أول من أحسن تصميمه والترويج له، فهل يحاول سام وجوني تكرار الحركة؟
قد يكون الحل في إيجاد جهاز جديد، لا يلغي الهاتف الذكي بالضرورة، بل يكمّله بوظيفة أكثر إنسانية وذكاءً
ما نحتاجه نحن المستخدمين ليس مجرّد ابتكار مذهل، بل ابتكار مفيد. جهاز يساعدنا على التركيز، لا التشويش؛ على الإنجاز، لا الإغراق في الإشعارات. إذا استطاعت (OpenAI) أن تحقّق هذا، فقد نكون بالفعل أمام لحظة تاريخية جديدة، لحظة ما بعد الهاتف الذكي.
لكن إن حدث ذلك، فإنّ الأثر لن يقتصر على شكل الجهاز أو نمط الاستخدام، بل سيمتدّ ليطاول البنية التنظيمية والسياسات التي تحكم علاقتنا بالتكنولوجيا. أجهزة كهذه، قائمة على الذكاء الاصطناعي، الصوت، والتعلم السياقي، ستتطلّب مراجعة شاملة لأنظمة الخصوصية، حماية البيانات، وأطر مساءلة الشركات المطوّرة. فبدل أن تكون الهواتف واجهات بيننا وبين العالم الرقمي، سيصبح الذكاء ذاته هو الواجهة، وهو ما يعني أنّ كلّ تفاعل، كلّ نيّة، وكلّ معلومة قد تصبح موضوعًا للتجميع والتحليل والمعالجة خارج سيطرتنا المباشرة.
لذلك، ينبغي للحكومات والمجتمعات ألّا تنتظر لحظة السيطرة الفعلية لهذه الأجهزة لتبدأ الاستجابة، فحتى الهواتف الذكية باتت سائرة على هذا الدرب، وعليه يجب من الآن تطوير أطر قانونية وأخلاقية جديدة تواكب هذا التحوّل، وتضمن أن يظلّ الإنسان لا الخوارزمية هو مركز القرار. فثورة ما بعد الهاتف الذكي، إن صدقت، ستكون تكنولوجية في الشكل، لكنها سياسية وأخلاقية في الجوهر.