مخيّم الركبان... قصّة بشر في اللامكان

11 يونيو 2025
+ الخط -

أُعلن عن إغلاق مخيّم الركبان الواقع على الحدود السورية الأردنية نهائيًا، وسط تمنيات بانتهاء معاناة آلاف النازحين السوريين من محتجزيه بعد مغادرته، وذلك بعد سنوات من العيش في واحد من أقسى الظروف التي يمكن أن يواجهها الإنسان المعاصر. البعض وصف هذه الخطوة بالبشرى، بينما يراها آخرون تصفية صامتة لواحدة من أكثر قضايا النزوح تعقيدًا في المنطقة. أما الحقيقة، فهي أنّ الركبان لم يكن مجرّد مخيّم، بل تجربة إنسانية عميقة، كشفت عجز النظام الدولي، وسقوطه الأخلاقي أمام أبسط أسئلة الكرامة الإنسانية.

منذ تأسيسه عام 2014، كان مخيّم الركبان فضاءً منفيًا، خارج الخرائط، خارج الاعتراف، وخارج الإنسانية في أغلب الأحيان. لا دولة تتبناه، ولا منظمة تتحمّل مسؤوليته بالكامل، ولا طريق مفتوحاً أمام سكانه للعودة أو الهروب. آلاف الأرواح عُلّقت بين رمال الصحراء، في خيام لا تقي بردًا ولا حرًّا، يواجهون الجوع والمرض والنسيان. لم يكن الركبان مجرّد مكان، بل كان تجسيدًا حيًّا لما يُمكن أن يحدث حين تُحوّل الجغرافيا إلى فخ، والحدود إلى أسوار سجن. 

حاصر النظام السوري بدعم روسي المخيّم في فترات مختلفة، مما أدّى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، وكان يسعى لإخلائه، بينما تنصلّت الولايات المتحدة من مسؤوليتها وهي من تسيطر على منطقة التنف القريبة من المخيّم، حيث توجد قاعدة عسكرية أميركية بسبب تفاهمات مع الجانب الروسي، ولعبت الأمم المتحدة دورها المُعتاد في مثل هذه الظروف، دور العاجز الذي فضّل بعض الصراخ الإعلامي وتوظيف المقرّبين من الأسد كمستشارين على مساعدة الضحايا، ليصبح مخيّم الركبان رمزًا للخلافات الدولية حول من المسؤول عن مأساة آلاف النازحين، وسط تبادل الأطراف المختلفة الاتهامات بالمسؤولية. 

لم يُصمَّم النظام الدولي كما نعرفه لحماية الإنسان بقدر ما صُمّم لحماية الحدود ومصالح المستعمر.

مأساة الركبان تفرض علينا أن نعيد التفكير في مفاهيم الانتماء والهُويّة والحقّ. هل الإنسان يظلّ إنسانًا حين يُجرّد من حرية التنقّل، والصوت، والحماية؟ هل تصبح الحياة أقلّ قيمة حين تقع خارج نطاق المصالح والسياسات؟ في الركبان، لا نرى فقط مأساة نازحين، بل نرى السؤال الوجودي ذاته ماذا يعني أن تكون غير مرئي في هذا العالم القاسي؟ لا أحد غير من قاسوا أوضاعًا مُشابهة يعرفون هذا الشعور، هناك، لربما كان الزمن معلّقًا، والحياة مؤجّلة، والأمل مؤطّرًا بالخوف، وكأنّ الناس خُلقوا ليبقوا مجرّد أرقام في تقارير، لا قصصًا تستحق الإصغاء.

ليس الركبان تجربة فريدة في هذا العالم الظالم. سبقتها وعايشتها مخيّمات أخرى، مثل موريا في اليونان، ومخيمات دارفور، حيث تحوّل الإنسان إلى عالق بين الأرض والهواء، يعيش بلا حماية ولا يقين، وتُستغل مأساته كورقة ضغط في لعبةٍ لا مكان فيها للضعفاء. كلّها تجارب تؤكّد أنّ النظام الدولي كما نعرفه لم يُصمَّم لحماية الإنسان بقدر ما صُمّم لحماية الحدود ومصالح المستعمر. 

في دارفور عاش سكان هذه المخيّمات في مناطق عازلة خارج سيطرة الدول، محرومين من أيّة حماية قانونية، وعُرضة للاستغلال السياسي والأمني، حيث كانت المساعدات تُقطع أو تُستخدم كورقة ضغط حسب تغيّرات المشهد الإقليمي. ووُصف مخيم موريا في جزيرة ليسبوس اليونانية بأنّه الجحيم على الأرض، إذ تجمّع فيه آلاف اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا في ظروف لا إنسانية، ضمن حدود الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من اختلافه عن الركبان لوقوعه تحت إدارة الحكومة اليونانية المدعومة من الاتحاد الأوروبي الذي يدّعي احترامه لحقوق الإنسان، فقد كشف مخيّم موريا عن نفاق السياسات الغربية في التعامل مع اللاجئين، حيث عاش الناس في أوضاع مزرية، بلا حقوق، وبلا خصوصيّة، ولا أمان، ولا كرامة. تُجسّد هذه التجارب وغيرها كيف أنّ العالم المعاصر، رغم كلّ شعاراته الزائفة، لا يزال يُنتج فضاءات منفية خارج النظام الإنساني، حيث يُختبر معنى العدالة، وينهار في كلّ اختبار.

لا يُقاس الإنسان بعدد، بل بحقّه في أن يحيا، ويُرى، ويُسمع، ويُحترم، وأن ينجو من اللامكان

لكن مع كلّ هذا السواد، يبقى الركبان وغيره من المخيّمات المنسية درسًا في الصمت، والخذلان، إلى جانب إرادة البقاء رغم كلّ شيء. وها هم من تبقوا من سكانه يعودون إلى وطنهم، لا نعلم بأيّة شروط ولا تحت أيّة ظروفٍ قاسية، لكننا نعلم أنهم يتركون خلفهم جرحًا مفتوحًا، يجب ألا ننساه، ودرسًا يجب أن نستفيد منه ألا وهو أنّ الكرامة لا يجب أن تكون خاضعة للتفاوض، وأنّ ترك الناس في اللامكان، الذي لا يُجمّد حياتهم فقط، بل يجمّد ضميرنا الجمعي.

لعلّ صفحة الركبان قد طُويت بصمت، كما يُطوى اللامكان حين ينتهي من دون ضجيج، في لحظةٍ أُطبِق فيها الحصار على غزّة لأكثر من 613 يومًا، حيث الجوع تحت القصف، والصمت تحت سماء الإبادة. لم تكن غزّة وحدها، بل الركبان، والسودان، وكلّ من زُجّوا في خانة اللامرئي، تقرّر عنهم أن يُنسوا. الغرب المستعمر، ولقيطه المحتل، ومن دار في فلكهم من أدوات، أرادوا أن يُمحى الإنسان حين تخرج مأساته عن جدول المصالح. لكن وسط هذا الخراب، لا تزال أصوات تقاوم الصمت، تحرس السردية، وتحمل أمانة من تبقى. فقصص المضطهدين لا تُروى فقط لتأريخ المأساة، بل لتذكير العالم بأنّ الإنسان لا يُقاس بعدد، بل بحقّه في أن يحيا، ويُرى، ويُسمع، ويُحترم، وأن ينجو من اللامكان.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.