وقف إطلاق النار: بين فرح العودة ومأساة الدمار
هلا نهاد نصرالدين
كانت ساعات الليل طويلة جدًّا. من نام تلك الليلة استيقظ هلعًا من أصواتِ الغارات، بينما اختار الكثيرون أن يبقوا مستيقظين يراقبون الساعات الأخيرة للحرب.
الساعة الأخيرة كانت بمثابة كابوس لا ينتهي ولا يمكننا الاستيقاظ منه؛ ضرباتٌ وغاراتٌ متتالية سمعتها كلّ أرجاء المدينة تقريبًا، حيث تشارك اللبنانيون الأرق في الليلة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية على لبنان.
كانت الضربة الأخيرة قبل نحو 15 دقيقة من دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ عند الساعة الرابعة فجرًا، كما أبلغنا الرئيس الأميركي جو بايدن. لكننا انتظرنا حتى اللحظة الأخيرة، فمعرفتنا بوحشية العدو الإسرائيلي وإجرامه كانت تُنذرنا بأنه سيستغل اللحظات الأخيرة ليحقّق أكبر أذى وضرر ممكن على كلّ الأصعدة. كانت الدقائق الأخيرة ثقيلة جدًّا وطويلة، ولكن عندما أصبحت الساعة الرابعة ودقيقة، بدأت الاحتفالات وارتفعت أصوات الرصاص. كان أهل الجنوب منتظرين على مدخل مدينة صيدا منذ منتصف الليل ليبدأ وقف إطلاق النار ويعودوا إلى قراهم ومنازلهم منذ مطلع الصباح. اكتظّت الشوارع بالعائدين الذين لم تسعهم فرحتهم بالعودة. أمّا البعض الآخر من اللبنانيين فقد خلد إلى نومٍ عميق عند توقف إطلاق النار بعد نحو شهرين كاملين من الأرق. تقول لي رفيقتي: "لأول مرة أنام بهذا العمق والراحة"، وهذا يلخّص حال الكثير من اللبنانيين بعد أن غادرت المسيّرة الإسرائيلية، المعروفة بأم كامل، السماء اللبنانية وأراحتنا من طنينها المزعج الذي لم يفارقنا ليلًا ونهارًا في الأشهر الماضية.
قليلًا ما نفكّر ما معنى أن نقف أمام مبانٍ ضخمة من تسع وعشر طوابق لم يبقَ منها إلا الصخور والركام
توجّهت في اليوم التالي صباحًا إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، إحدى أكثر الأماكن استهدافًا في الحرب، لأرى أثر الحرب على هذه المنطقة. كان حجم الدمار كبيرًا جدًّا. قمت بجولة سريعة على الدراجة النارية مع زميلي في العمل صباحًا، التقطت الصور والفيديوهات القصيرة وأعددت فيديو لعملي. كنت منهمكة بين الأدرينالين وسعادة انتهاء الحرب من جهة وبين عنصر السرعة وضرورة النشر الصحافي السريع. لم يسعني أن أستوعب مشاهد الدمار التي رأيتها وكانت الروائح سيئة جدًّا أيضًا، بين روائح الغارات والغبار والركام. راقبتُ سكان المنطقة الذين كانوا يكنسون الركام أمام منازلهم ومحلاتهم التجارية بالمكانس. رأيت وجوه فرحة بالعودة، ولكنني أيضًا رأيت سيدة تبكي منزلها، وجوه شاحبة فقدت لونها جرّاء هول الدمار. امتزجت المشاعر بين فرح العودة ومأساة الدمار!
في المساء ذهبت مرّة أخرى ومشيت في أزقة الضاحية الجنوبية واستطعت التمعّن أكثر في المباني المدمّرة. وهناك شعرت بثقل المشهد. عندما مشيت بين الركام ونظرت إلى بقايا المنازل والذكريات شعرت بحجم الخسارة وبوجع سكان المباني المدمّرة. رأيت صفحةً من كتابٍ ممزّق على الأرض، ولعبةَ أطفال ودمية دبٍّ رمادي صمد من بطش الغارة الإسرائيلية وكأنه ينتظر أن يأتي صاحبه ويستعيده ويطبطب عليه. طاولات، كراسي، ثياب ممزّقة، كرسي مكتب ربما كان يجلس عليها صاحبها يقرأ الكتاب الذي تناثرت صفحاته ولم يبق منه إلا أجزاء محروقة ومقروءة بصعوبة.
ذكريات ماضٍ وحاضر دُفنت في مبانٍ ضخمة أضحت ركامًا منثورًا. وأنا أمشي، وقفت أمام مبنى مدمّر بالكامل. نسمع هذه العبارة دائمًا، ولكن قليلًا ما نفكّر ما معنى أن نقف أمام مبانٍ ضخمة من تسعة وعشرة طوابق لم يبقَ منها إلا الصخور والركام. مكثت أمام أحد المباني نحو 20 دقيقة، أنظر إلى تفاصيل المبنى والثياب وأراقب ألوانها وألوان الأغطية وشكل الطاولات أو بقايا الطاولات وتفاصيل حياتية بسيطة موجودة في كلِّ منزل مثل الشامبو والبلسم والفوط الصحية وغيرها.