عن "مركز الموسيقى العربية والمتوسطية" و"دار سوتيميديا"، صدر كتاب "الأغاني الشعبية في تونس بين هاجس التأصيل ومنزع التأهيل" لأمين الزواري، والذي يبحث في قدرة التراث الغنائي التونسي على الاستمرار والتفاعل من جهة ومخاوف الذوبان والانصهار من جهة أُخرى.
يناقش الباحث التونسي العلاقة الوثيقة بين الفن والشعب، وكيفية تأثير الأغاني الشعبية في تشكيل الذاكرة الجماعية للمجتمع وتوثيق تطوراته، ويطرح إشكاليات عدّة مثل ما اذا كانت التحولات الكونية الكبرى والسريعة الحاصلة إثر الطفرة التكنولوجية والاتصالية قد امتد فعلها وتأثيرها إلى الموسيقى الشعبية في تونس، لتغير من حدود المفهوم وتفرض أسلوباً جديداً مختلفاً لا في صياغة الأثر الموسيقي وبنائه فقط، بل في سبل تداول الأعمال الموسيقية وابتداع أساليب مستحدثة لنشرها.
كما يتساءل الكتاب إن كان عصر الميديا الجديدة أفضى إلى نشوء معايير مبتكرة بشأن نجاح الأعمال الموسيقية من عدمه، وكذلك بخصوص تقييم جودتها وحداثتها وانسجامها مع المحيط السمعي والتقاليد الموسيقية، فضلاً عن قضية الإبداع الموسيقي في حدّ ذاته.
يناقش الكتاب كيفية تأثير الأغاني الشعبية في تشكيل الذاكرة الجماعية للمجتمع وتوثيق تطوراته
وفي مقدمته للكتاب بعنوان "الرصيد الغنائي الشعبي التونسي وإكراهات تأهيله زمن العولمة"، يوضّح أستاذ التاريخ الثقافي لطفي عيسى بأن الفصل الأول أُفرد لإبراز صعوبة تعريف مصطلح الثقافة الشعبية، والبتّ في مضمون الجدل القائم حول الممارسات الثقافية، بين الدفاع عن الخصوصية والتوجّه نحو تعريف كوني جامع لتلك الممارسات.
وعرضت المقاربة التطبيقية للفصل الثاني من البحث لما شكّل خصوصية الواقع التعبيري للموسيقى الشعبية في تونس، ولمحدّدات خطابها بين ما وسمه المؤلف بـ"الجمالية ولذة التلقي"، وسياقات علاقة ذلك النمط من المغنى بالفضاء الرقمي، بحسب المقدمة.
وأشار عيسى إلى أن الفصل الثالث تطرق إلى أشكال تداول الأغاني الشعبية تونسياً، وانتقال ذلك من التعويل على الذاكرة الجمعيّة وحدها إلى الترويج الوسائطي، وذلك عبر توضيح جملة من المسائل على غرار: "التناقل الشفوي"، و"التداول البصري"، و"الميديولوجيا"، و"الترويج بين التبضيع وامتهان الجسد"، كما أثار أيضاً موضوع الصعوبات المتصلة بانتشار الأغاني الشعبية والاستثمار فيها من بوابة الدور الذي يلعبه الجسد في الأعمال المشهدية.
يعتبر المؤلِّف، وفق المقدمة ذاتها، أن العولمة استغلت هذه الثورة المعلوماتية والتكنولوجية قصد مدّ سيطرتها على الاقتصاد العالمي، موسّعة في مداه ليتحوّط على الأنشطة الفكرية والعلمية والثقافية، وذلك بغرض تهجين الثقافات واخضاعها إلى نموذج جامع، يبتسر الاختلاف أو التمايز، ويدفع إلى توحيد القيم، وفق ما ترتضيه المعايير الغربية.
ويرى أيضاً أن عصر العولمة تمكّن من تحويل الابداع الموسيقي عامة، والغنائي الشعبي تحديداً، إلى منتج صناعي كوني يخضع تقنياً لشروط التصنيع السلسلي التبضيعي، على شاكلة بقية الصنعات الأُخرى، (السيارات والتجهيزات المنزلية وغيرها)، لذلك فإنه مضطر إلى الاعتبار بشروط الكُلفة، وظروف الإنجاز، وسهولة التنفيذ، وهو ما يؤثر بالضرورة على المسألة الإبداعية، ويُحوِّل الفعل الثقافي إلى قيمة تبادلية لا تكترث كثيراً بالشاغل النقدي، كما بالحفاظ على حدّ معقول من الأصالة أيضاً، فالصناعة الثقافية هي حجّة الفصل في صياغة المنتج الفني، دون اعتبار مباشرة بشحنته الفكرية أو الوجودية.
يُذكر أن أمين الزواري أستاذ جامعي متخصص في العلوم الثقافية. أصدر دراسات عدّة من بينها: "تمازج الوافد والخصوصي في فن المالوف التونسي"، و"ملامح الهُوية في الخطاب الموسيقي المعاصر"، و"الإثنوموزيكولوجيا بين إشكالية الموضوع والخيارات المنهجية"، و"الرواسب الأفريقية في الثقافة الشعبية التونسية: قراءه في مفردات الطقس ورمزية العلامة في سطمبالي سيدي منصور بصفاقس".