استمع إلى الملخص
- مطعم الشاورما والمقهى الصغير يمثلان روح التحدي، حيث يواصلان تقديم خدماتهما للزبائن الذين يعيشون وكأن الحرب لم تمسهم، مما يعكس الإصرار على الحياة والاحتفال رغم الصعوبات.
- الحياة تتجلى في تفاصيل صغيرة مثل بائع الخضار والطفل الذي يحمل طائراً جريحاً، مما يبرز قدرة المدينة على البقاء والعيش بفضل ندوبها وتحدياتها.
المدينة التي تأكل موتها!
المدينة ليست مكاناً، إنها جرحٌ يمشي على قدمين، ذاكرة متشظّية تتّكئ على نفسها كي لا تسقط. لم تعُد مجرّد شوارع وبنايات، إنما كائنٌ مُنهكٌ يتنفّس بين الخراب، يُرمّم جسده بالحياة، يخطو فوق الندوب وكأنها أرصفة عادية. أمشي فيها كمن خرج لتوّه من ظلمةٍ طويلة، كمن نجا من الغرق لكنه لا يزال مبلّلاً بماء الحزن. الشوارع، رغم الخراب، لا تزال تنبض كأنها لم تُضرب، كأنها لم تنزف، أو ربّما لأنها تعلّمت كيف تحيا بالندوب.
الهواء مثقلٌ برائحة الغبار، لكنه ليس غبار الهدم فقط، إنه غبار القصص التي لم يُكملها أحد. آثار أقدام مطموسة على الإسفلت المُشقّق، حروف ناقصة على لافتة متجر قديم، وجوه تعبر سريعاً كأنها تخشى أن تتورّط في مشهد لم تكتمل مأساته بعد. الحياة هنا ليست عادية، إنها حياةٌ تُنبت نفسها من بين أنياب الموت، تقضم الخراب وتُعيد تشكيله، كأنها تُحاول أن تثبت للعالم شيئاً لا يفهمه إلّا من عاش تحت الرماد.
عرائس تخرج من بين الحطام
عند ناصية الشارع، يقف متجر فساتين الزفاف، تماماً تحت بُرجٍ متآكل، نصفه مهدّم والنصف الآخر واقفٌ رغم كل الاحتمالات. كأن الحياة وضعت عنادها هنا، فكرة أن شيئاً هشّاً مثل الدانتيل يُمكنه أن يقف بثبات في مدينةٍ تكاد تنهار.
الواجهة الزجاجية مكسورة عند طرفها، لكنها لا تزال قائمة. خلفها، عارضات بلاستيكية ترتدي فساتين بيضاء، ناصعة، متألّقة، كأنها تنتمي لعالمٍ آخر. فتاة شابّة تقف هناك، ترفع فستاناً، تضعه أمام جسدها، تنظر إلى انعكاسها في الزجاج المكسور، وكأنها تُحاول أن ترى نفسها في مستقبلٍ لم يتّضح بعد.
أمشي كمن نجا من الغرق لكنه لا يزال مبلّلاً بماء الحزن
البائع يراقبها بصمت، يُدرك أنها ليست أول عروس تأتي إلى هنا رغم الخراب، ولن تكون الأخيرة. يخبرها أن حفلات الزفاف لا تتوقّف، أن الناس تتزوّج حتى في زمن الموت، أنّ الحروب لم تمنع الفتيات من ارتداء الأبيض، وأنّ المدينة، رغم أنف الحطام، ستبقى تحتفل.
الشاورما التي تتحدّى الأنقاض
في الطابق الأرضي من عمارة مُهدَّمة، يتصاعد الدخان من مطعم صغير، كأنه جزءٌ من المدينة القديمة التي ترفض أن تُمحى. لا جدران كاملة، لا سقف يحمي المكان من المطر، لكن الطاولات البلاستيكية مزدحمة، وصوت اللحم المشوي يغطّي على الصمت الثقيل الذي يُخيّم على الشوارع المجاورة.
تأكل موتها وتصنع منه خبزاً، تعجن حزنها وتصنع منه بيوتاً
الرجال يأكلون بسرعةٍ تشبه الجوع، أو ربّما تشبه الغضب. يضحكون، يتحدّثون بصوتٍ عالٍ كأنهم يحاولون أن يثبتوا أن الحياة لا تزال هنا. النادل، شابّ بالكاد تجاوز العشرين، يتحرّك بين الطاولات كأنه لم يلاحظ الشرخ في الجدار، كأنه لم يرَ الطوب المتساقط عند المدخل. يحمل الصحون، يصيح: "شاورما دبل؟ مزيد من الصلصة؟"، يتجاهل أنّ نصف المطعم لم يعد موجوداً، كأن هذا الخراب مجرّد تفصيل صغير، مجرّد خلفية لصورة أُخرى لم تكتمل.
مقهى في حضن الدمار
على الرصيف المقابل، مقهى صغير، نصفُه ما زال قائماً، ونصفه الآخر مجرّد رُكام. المقاعد موضوعة بعناية، كأن صاحب المكان أراد أن يتحدّى كلّ قوانين الفوضى. الزبائن يحتسون القهوة، يثرثرون عن الحياة وكأن الحرب لم تمسّهم.
شابٌّ يجلس في الزاوية، يدخّن سيجارة ببطء، كأنما يمضغ الوقت نفسه. رجل عجوز يقرأ صحيفة ممزَّقة، يتابع الأخبار التي يعرف أنها قديمة، لكنه يصرّ على قراءتها. النادل يملأ فناجين القهوة، يبتسم لزبون دائم، يسأل عن صحّته، كأن هذا الصباح ليس مُحاطاً بأطلال مدينة.
بائع يبيع الأمل
على الطرف الآخر من الشارع، يقف بائع الخضار، يرصف بضاعته بعنايةٍ تشبه الطقوس. الطماطم اللامعة بجوار الخيار الأخضر، رؤوس الخسّ المنتفخة كأحلامٍ جديدة، والباذنجان الأسود كأنه صمت المدينة المتراكم.
عجوز تمرّ، تنحني قليلاً، تفحص البطاطا كما لو أنها تقرأ تاريخها. طفل صغير يُمسك بيد والده، يشير إلى سلّة البرتقال، يريد واحدة، الأب يشتريها له، يقشّرها على الفور، فتنتشر رائحة البرتقال الطازج في الهواء المُشبع بالغبار.
طفل وطائر ورجلٌ بلا ظلّ
في زقاقٍ ضيّق، يجلس طفلٌ صغير على عتبة بابٍ نصفه مخلوع. في يده طائرٌ صغير، ربّما جريح، ربّما ميت، لكنه ينظر إليه بعينين ممتلئتين بالرجاء. يحاول أن يُحرّك جناحيه، ينفخ عليه، كأنه يريد أن يُعيد إليه الحياة.
رجلٌ عجوز يمرّ، يتوقّف، ينظر إلى الطفل والطائر، يبتسم بخفوت. يسأل الطفل:
"هل سيطير؟"
يجيب الطفل بيقينٍ غريب: "نعم، فقط يحتاج قليلاً من الوقت".
الرجل يهزُّ رأسه، يُكمل طريقه، يختفي في الظلّ.
في قلب الخراب، تولد الحياة
أُواصل السَّير، أُراقب كلّ هذه التفاصيل، وأُدرك شيئاً لم أفهمه من قبل. هذه المدينة لا تعيش رغم الخراب، بل تعيش به، تحيا بفضل ندوبها، تتغذّى على أحزانها وتصنع منها يوماً آخر.
تأكل موتها وتصنع منه خبزاً، تعجن حزنها وتصنع منه بيوتاً، تحرق ذكرياتها وتدفئ بها لياليها. هذه المدينة ليست مجرّد مكان، إنها فكرة، فكرةٌ لا تموت، كأنها ترفض أن تُمحى، كأنها تُصرّ على أن تبقى، حتى ولو كان بقاؤها تحدّياً للمنطق.
في الصباح، حين يفتح التجّار محالهم وسط الدمار، وحين يقف الأطفال في طوابير أمام المدارس التي لا تزال على قيد الحياة، وحين تنطلق ضحكةٌ مفاجئة في مقهى نصفه مُهدَّم، تدرك أن هذه المدينة لم تنكسر.
إنها هنا، وستظلّ هنا، حتى لو اضطرّت أن تعيش على أطراف أصابعها، حتى لو كان البقاء مجرّد معجزةٍ يومية. هذه المدينة، رغم كلّ شيء، تُنجب حياة جديدة، حتى من قلب الجحيم.
* شاعر وباحث أكاديمي من غزّة