استمع إلى الملخص
- سقوط نظام البعث يفتح الباب للتأمل في العوامل التي ساهمت في نشوء واستمرار النظام الديكتاتوري، ويدعو للتفكير في إمكانية إقامة نظام ديمقراطي حقيقي.
- تحتاج سوريا إلى ثورة ثقافية وسياسية تتجاوز ثقافة التبعية، ويجب على المثقفين تبني مشروع ثقافي جديد يقوم على الحرية والمواطنة والمساواة.
شأنه كشأن المجتمعات العربية كافّةً، لطالما كان في المجتمع السوري صراعٌ بين ثقافة السطح وثقافة العمق. ثقافة المتن وثقافة الهامش. ثقافة الصوت وثقافة الصمت. ثقافة القبول وثقافة الرفض. ثقافة الداخل وثقافة الخارج.
الأولى، هي ثقافة استهلاك وتكديس. ثقافة مُتاجرة. ثقافة مدح ومواربة ومزايدة. ثقافة نعم نعم، لا لا. الثانية، هي ثقافة إبداع ومغامرة. ثقافة تفجّر وتخطّ وانفتاح. ثقافة اختلاف. ثقافة استبصار.
ارتبطت الثقافة الأولى، تاريخياً، بالسلطة الحاكمة والمؤسّسات التابعة لها. في حين كانت الثانية مرتبطة بالطبقات الفقيرة والمحرومة والمهمّشة التي حاولت اقتلاع ثقافة القشور السائدة.
بعد أكثر من خمسين عاماً حكم فيها حزب البعث العربي الاشتراكي سورية بقبضة نظام أمني وعنفي وعسكري، رسّخ فيها نموذج الثقافة الأولى، ثقافة "القائد" الواحد والأوحد، أباً وابناً. فإن سقوط رئيس نظام البعث فراراً يقتضي تأمّلاً عميقاً لا في طريقة الهروب وحدها، ولا في هذه السنوات التي احتكرت فيها عائلة واحدة ثروات البلاد وموارده لأكثر من نصف قرن، ولا في سقوط نظام وحشي وتهاويه. يقتضي، أوّلاً، وقبل كل شيء، التأمّل العميق في البنى التاريخية والسياسية والدينية والثقافية والاجتماعية والفكرية التي أدّت إلى هذه الظاهرة الديكتاتورية واستمرارها، ثم سقوطها بهذا الشكل.
ما هذه البلاد التي تتيح نشوء نظام وحشي واستبدادي كنظام الأسد؟
لم يهبط بشار الأسد من السماء. وهو ليس من أنشأ سورية، كما لم ينشئ أي ديكتاتور بلده، بل سورية هي التي أنشأت حافظ وبعده بشار، وكما أنشأت البلدان العربية كلّها "قادتها". هل نستطيع أن نقول، تبعاً لذلك، ما تكون هذه البلاد، التي تتيح نشوء نظام وحشي واستبدادي كنظام الأسد؟
ما هذه الأرض العربية، وما دور التاريخ فيها، والثقافة، والدين، والفكر، والمذاهب، وما دور الاستعمار؟ وهل نستطيع أن نسأل، تبعاً لذلك، باسم فجر جديد: هل ستتمكن سورية من إقامة نظام ديمقراطي حقّا يتساوى فيه السوريون حقوقاً وواجبات إذا لم نتأمل هذا الدور واستمررنا في تأجيل الحديث عنه ومناقشته بحجة الظرف والوضع واللحظة أو أية حجة أخرى؟
صار من نافلة القول إنّه يتعذّر التأسيس لمشروعٍ سياسي حديث إلّا استناداً إلى مشروع فكري حديث ومعرفة جديدة. ويتعذّر كذلك تحقيق هذين المشروعين إلّا في إطار ثقافة قائمة بشكل أساسي على قاعدة الحرية، والمواطنة، والمساواة، والقانون.
تحتاج سورية اليوم إلى ابتكار أبجدية سياسية وثقافية جديدة تنبذ ثقافة التبشير والإعلام والدعاية السائدة التي كرسّها نظام البعث، أباً وابناً. تحتاج سورية اليوم الانتقال من ثقافة الظلام إلى ثقافة الضوء، من ثقافة السجون إلى ثقافة الحرية.
مثقفو سورية أمام مسؤوليات عدّة. من جهة عليهم أن يُحِدثوا قطيعة مع الثقافة السائدة التي رسّخها النظام، ثقافة المواربة والتربّص والتخوين والاتهام والتصيّد. ومن جهة ثانية عليهم أن يقدّموا ما يمكن أن يحلَّ محل ما يريدون هدمه وأن يكونوا خلّاقين وبنّائين كي يتمكنوا من إقامة مشروع ثقافي حرّ قوي ومتين. وفي هذا كله، على المثقف السوري اليوم أن يعي، أكثر من أي وقتٍ مضى، دوره في إقامة مسافة بينه وبين السياسة، سلطة ومؤسسات، مؤكداً على استقلالية الكتّاب والكتابة عنها. وإلا ستبقى الثقافة السورية تنويعات على الثقافة السائدة في معظم البلدان العربية، شكلاً ومضموناً.
* كاتب وشاعر سوري مقيم في إسبانيا