نادر سراج وهوية المائدة.. مفاتيح ألسنية سوسيولوجية لقراءة بيروت

23 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 27 سبتمبر 2025 - 12:03 (توقيت القدس)
حيث تصبح الوجبات اليومية علاماتٍ قابلة للتفسير (تصميم: العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يستعرض كتاب "نكهة بيروت: موائد وسرديات" للباحث نادر سراج الطعام كظاهرة اجتماعية وثقافية، موضحاً كيف تعكس الأطباق التقليدية مثل الكبّة والتبّولة تاريخ بيروت وتحولاتها.

- يبرز الكتاب دور الطعام في المناسبات الاجتماعية كوسيلة لإعادة إنتاج العلاقات بين الأجيال، ويستعرض تأثير العولمة على معجم الطعام البيروتي، مما يثير تساؤلات حول مصير النكهة الأصلية.

- يقدم سراج صورة للمائدة كفضاء تواصلي يكشف عن خريطة السلطة والحميمية، ويدعو إلى إعادة الاعتبار للموائد كفضاءات للتشارك في مواجهة عزلة المدن الحديثة.

كتاب "نكهة بيروت: موائد وسرديات" للباحث والمترجم وأستاذ اللسانيات الاجتماعية اللبناني نادر سِراج عملٌ بحثيّ يزاوج بين السوسيولوجيا واللسانيات والأنثروبولوجيا، ويحاول إعادة قراءة الطعام لا بوصفه حاجة يومية أو مظهراً من مظاهر الثقافة الشعبية فحسب، بل باعتباره نصاً اجتماعياً وفهماً للتحولات العميقة التي عرفها المجتمع اللبناني. يتعامل المؤلف مع المائدة، في كتابه الصادر حديثاً عن دارَي "المؤلّف" و"معالم" بوصفها فضاءً رمزيّاً تتقاطع فيه اللغة والعادات والهوية، حيث تصبح الوجبات اليومية علاماتٍ قابلة للتفسير ومرايا عاكسة لطبقات التاريخ والذاكرة الجمعية.

يستهلّ سِراج (1948) كتابه بمقدمة ينسج فيها صورة بيروت عبر مطابخها وأسواقها، ويشير إلى أنّ اختيار المدينة ليس اعتباطياً، فهي نقطة التقاء الشرق بالغرب، والبحر بالجبال، والهجرات القديمة بالتبادل التجاري الحديث، بما يجعل مطبخها نموذجاً مثاليّاً لدراسة المعاني العميقة الكامنة في تفاصيل المائدة. في هذا السياق، يصبح الطعام خطاباً متحركاً تتقاطع فيه الدلالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتغدو الأطباق التقليدية، كالكبّة والتبّولة والحمّص، مفاتيحَ لقراءة تاريخ المدينة أكثر مما هي مجرد أطعمة تُقدَّم على الموائد؛ مُحقّقاً المعادلة في المثل السائر "مفتاح البطن لقمة" أو/ وكلمة.

يقرأ المائدة بوصفها فضاءً تتقاطع فيه اللغة والعادات والهوية

يتوسّع صاحب كتاب "بيروت: جدل الهوية والحداثة" (مكتبة أنطوان، بيروت، 2023) في استخدام أدوات تحليل الخطاب واللسانيات الاجتماعية ليكشف عن أنماط التسمية والأمثال الشعبية والمصطلحات المرافقة للطبخ والضيافة، معتبراً أنّ الأسماء والتعابير ليست عنصراً مكمّلاً بل لُبٌّ دلاليٌّ يحمل إشارات إلى الهجرات والتأثيرات الثقافية المتراكمة. كما يعرّج الكتاب على البُعد الطقسي للطعام من خلال فصول تصف بالتفصيل كيف تتحوّل الموائد في الأفراح والمآتم والأعياد إلى مشاهد اجتماعية تَستعرض القيم الجماعية مثل الكرم والتضامن، وتُعيد إنتاج العلاقات بين الأجيال والجماعات. ويكشف سراج عن حضور الأغاني الشعبية والأهازيج والأمثال في لحظات الأكل والضيافة، بوصفها "توابل لغوية" تضفي على الوجبات بعداً سمعياً وثقافياً يعادل النكهة في الطبق ذاته.

كذلك يتطرّق المؤلّف إلى أثر العولمة في تبديل معجم الطعام ومعانيه، فيسجّل تحوّلات المائدة البيروتية تحت ضغط سلاسل الوجبات السريعة والثقافة الاستهلاكية المتعجلة، ويلاحظ كيف أن أسماء الأطعمة الدخيلة أو المعرّبة تغزو القوائم في حين تتراجع أطباق ذات جذور محلية. ويطرح أسئلة قلقة عن مصير النكهة الأصلية والطقوس التقليدية في زمن يزداد فيه الانفصال بين الناس ويطغى عليه البُعد الفردي في تناول الطعام.

إحدى قاعات طعام الجامعة اللبنانية الأميركية، بيروت، 1946 (Getty)
إحدى قاعات طعام الجامعة اللبنانية الأميركية، بيروت، 1946 (Getty)

من منظور أنثروبولوجيّ، يرسم سراج صورة بانورامية للمائدة باعتبارها نصّاً مفتوحاً. فكل تفصيل، من ترتيب المقاعد والأطباق إلى تبادُل الصحون أو الصمت أثناء الأكل، يُفهَم عنده كعلامة تواصلية تكشف خريطة السلطة والحميمية والتراتبية الاجتماعية. ويضمّن كتابه معجماً لغوياً موسّعاً يربط الأطعمة بالمكونات الزراعية والأدوات المنزلية والأمثال الشعبية في محاولة لإنقاذ الذاكرة الغذائية من التآكل، وجعلها متاحة للأجيال القادمة كجزء من هوية لغوية وثقافية متكاملة.

ويمضي المؤلف أبعد من مجرد التوثيق ليحلّل البعد الهوياتي للمائدة، موضحاً أن الطعام أداة للتعبير عن الانتماء والطبقة والموقع الاجتماعي، وليس مجرد حاجة بيولوجية. ويستند إلى شواهد لغوية وثقافية ليبين التحول من الأكل الجماعي إلى الفردي، ومن البطء إلى السرعة، ومن القداسة والرمزية إلى الاستهلاك الآني، ويقارن بين مطاعم بلا ذاكرة في مراكز التسوق والأحياء الشعبية التي لا تزال تحافظ على أصالة الطقوس الغذائية.

يمتاز أسلوب سراج بقدرته على الجمع بين البحث الأكاديمي الدقيق واللغة الأدبية، وتبدو كلّ فقرة فيه مزيجاً من السرد والتحليل، بحيث تتداخل الأبعاد اللسانية والاجتماعية والثقافية في نص يقدّم صورة شاملة عن المدينة والمائدة والإنسان. وفي خاتمة الكتاب تتبلور دعوة إلى التريث في تناول الطعام مثلما يتريّث في القراءة، وإلى النظر في الطبق بوصفه نصاً مفتوحاً على الذاكرة والتاريخ، حيث يمكن تلمّس حكايات الأجداد في قوام الخبز ورائحة التوابل. ويختم بضرورة إعادة الاعتبار للموائد بوصفها فضاءات للتشارك في مواجهة عزلة المدن الحديثة.

المساهمون