استمع إلى الملخص
- تمتلك غرينلاند احتياطيات كبيرة من المعادن النادرة، مثل اليورانيوم، لكن الهيمنة الصينية على السوق العالمي تعرقل استغلالها. يسعى الأوروبيون لتقليل اعتمادهم على الصين بخطط لاستخراج المعادن محليًا بحلول 2030.
- أبرم الاتحاد الأوروبي شراكة مع غرينلاند لاستخراج المواد الخام بطرق مستدامة، وتسعى الولايات المتحدة لتكون شريكًا في استثمارات التعدين، مما قد يؤدي إلى توترات تجارية مع أوروبا.
أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل عودته إلى البيت الأبيض في العشرين من يناير/كانون الثاني الحالي سجالًا بشأن رغبته في السيطرة على كندا وقناة بنما وجزيرة غرينلاند القطبية الجليدية. وكان ترامب، خلال ولايته السابقة، قد أبدى الرغبة ذاتها في عام 2019، ما دفع رئيسة حكومة الدنمارك، ميتا فريدركسن، إلى اعتبار المقترح "سخيفًا".
وتحت سطح النقاشات السياسية والأمنية - الدفاعية لحساسية موقع الجزيرة بالنسبة لأميركا الشمالية عمومًا، ثمة ما هو أعمق، يتعلق بما في باطن أرض وجبال الجزيرة الممتدة على أكثر من مليوني كيلومتر مربع (حكم ذاتي لحوالي 56 ألف نسمة) لناحية المعادن الحيوية والخامات في أغلب الصناعات. جاءت تصريحات ترامب الأخيرة بالتزامن مع اتخاذ الصين قرارًا في ديسمبر/كانون الأول الماضي بحظر العديد من المعادن، بما في ذلك الغاليوم والأنتيمون، إلى الولايات المتحدة، ما دفع بمستشاره مايك والتز إلى الكشف عن أن الاهتمام بغرينلاند يتعلق بالموارد الطبيعية، على ما نقلت عنه وكالة رويترز.
الحديث هنا هو عن معدني الغاليوم والانتيمون، من بين موارد خام أخرى. ذلك لأهميتهما في صناعات مختلفة، بما في ذلك الإنتاج العسكري، كالمقذوفات ونظارات الرؤية الليلية وأجهزة استشعار الأشعة تحت الحمراء، وأكثر من ذلك بكثير. باطن أرض غرينلاند يحوي المعدنين، حسبما أظهرته هيئة المسح الجيولوجي الدنماركية وغرينلاند (جيوس GEUS).
أهمية غرينلاند
الأميركيون يعلمون بالطبع ما تحتويه غرينلاند، وهم الذين يملكون منذ الحرب العالمية الثانية وجودًا عسكريًّا فوقها. والمواد الخام، بما في ذلك كميات هائلة من اليورانيوم، لم يُجرِ استخراجها بصورة كبيرة بعد، وذلك بسبب الحاجة إلى التمويلات الضخمة للاستخراج والتعدين.
ومنذ 2007، تعمل شركة التعدين الأسترالية "إنيرجي ترانزايشن مينارالز" (Energy Transition Minerals) على بعض المواد المعدنية المهمة في أرض الجزيرة. لكن نقص الاستثمار في الاستخراج والتعدين، مع هيمنة صينية على السوق العالمي للتعدين ومعالجة المعادن الأرضية النادرة، أخّر استخراج وتعدين الغاليوم والانتيمون.
ومع قرار الصين الشهر الماضي منع تصديرهما إلى واشنطن، يعود بقوة سجال الهيمنة على غرينلاند باعتبارها بديلاً للهيمنة الصينية على السوق.
بالطبع، أميركا ليست وحيدة الراغبة في بدائل أو الهروب من تمكّن التعدين الصيني من رقاب الصناعات التي تحتاج المعادن النادرة، حيث تزوّد بكين الاتحاد الأوروبي بنسبة 100% من استهلاكه للمعادن النادرة، وتسعى دوله إلى تغيير ذلك من خلال وضعها العام الفائت 2024 لائحة بشأن المواد الخام الحيوية التي من المفترض أن تجعل معسكر القارة في نهاية المطاف أقل اعتمادًا على الصين.
فالأوروبيون لديهم ذات القدر من القلق الأميركي في سياق الاحتكار الصيني للتعدين، حيث لا يوجد سوى بضعة دول لديها القدرة والمعرفة اللازمتين لاستخراج المعدنين المهمين، الغاليوم والانتيمون، ومعالجتهما للتعدين. ومعالجة المعادن عمومًا أمر حيوي في بعض الصناعات، مثل المعدات العسكرية والهواتف الذكية وطواحين الهواء والسيارات الكهربائية والخلايا الشمسية، وكل شيء آخر تقريبًا.
الاحتكار الصيني يخيف أميركا
إذًا، يبدو أن غرينلاند تُنظر إليها أميركيًّا بديلاً للمصدر الصيني لمعدني الغاليوم والانتيمون، ذلك إضافة إلى الذهب الذي يسيل له لعاب ترامب.
وعلى المستوى الأوروبي، رغم تنديد بعضهم برغبات ترامب في السيطرة على أراضي حلفائه، فإنهم يدركون أن خروجهم من مأزق اعتمادهم على الصين لا يُغني عن ضخ الاستثمارات بمليارات الدولارات في التعدين، وقد وضعوا خطة تقضي باستخراج 10% من الاستهلاك السنوي للاتحاد الأوروبي من المعادن المهمة داخل دولهم بحلول 2030 ووجوب معالجة ذاتية لما لا يقل عن 40%.
وحين يبرز ما يشبه صراعًا وتنازعًا على المنطقة القطبية الشمالية، فالأمر لا يتعلق فقط بمسائل دفاعية-أمنية، أو بمحاولة الصين استغلال التغيرات المناخية لفتح خطوط بحرية شمالية أقصر من آسيا بمحاذاة شواطئ الروس. فقد دأبت الصين لفترة طويلة في محاولة الدخول إلى غرينلاند من خلال بوابات استثمارات، بإنشاء مطارات ومصانع، بالاتفاق مع سلطة الحكم الذاتي في غرينلاند، لكن الفيتو الدنماركي عطلها.
في السنوات الأخيرة، تنبه الأميركيون والأوروبيون للمحاولات الصينية، خصوصًا مع استغلال توتر علاقات موسكو بالغرب، لتعزيز حضورها في المنطقة القطبية الشمالية، اهتمامًا بالمعادن والمواد الخام في سياق إبقاء هيمنتها في التعدين وعموم علاقاتها التنافسية الهائلة مع أميركا وأوروبا.
فندرة المواد الخام بالنسبة للصناعات الغربية - الأميركية، مع استشراف المزيد من الاختلال لصالح الصين مستقبلًا، يعني أن تكلفة الإنتاج الأميركي والأوروبي، القائم على معايير اجتماعية وبيئية أوروبية، سترهق جيوب المستهلكين بارتفاع أسعار بعض السلع، وهو ما يصب في مصلحة التصدير الصيني، ليس فقط إلى الغرب بل إلى مستهلكي بقية دول العالم كبدائل عن تلك مرتفعة التكلفة الإنتاجية الغربية.
شراكة أميركية في باطن الأرض
خلال الأعوام الأخيرة، سارع الاتحاد الأوروبي، بمعية كوبنهاغن، إلى توقيع شراكة استراتيجية مع غرينلاند في عام 2023، لجعل استخراج المواد الخام صناعة أساسية وبطرق مستدامة. وفي البحث اليوم عن مخرج لمأزق إصرار ترامب الاستحواذ على غرينلاند، بدعم المجمعات الصناعية الأميركية، تأتي محاولات الحليف الأوروبي لدفعه وكوبنهاغن إلى بدائل تكون فيها واشنطن شريكًا مع الحكومة المحلية في الجزيرة، للاستثمار الأميركي في الاستخراج والتعدين.
ومع أن بعض المناجم تعمل اليوم، فإن الاستخراج والتعدين يحتاجان لاستثمارات هائلة. وتطرح اليوم أفكار لبدائل الصراع، يُسمح من خلالها للشركات الأميركية بالتحول إلى شريك مع غرينلاند بشأن ما في باطن أرض الجزيرة، وذلك بالطبع يحتاج إلى موافقة كوبنهاغن صاحبة السيادة على الجزيرة.
أما الطريقة الترامبية في الضغط على الدنمارك لانتزاع غرينلاند منها، دون استبعاد القوة والحرب التجارية عليها، فيمكن أن تفتح صراعًا مع أوروبا التي عبرت عن رفضها تهديداته. ونشوء صراع أميركي - أوروبي يمكن أن يفيد أيضًا المزيد من التحكم الصيني لإحداث شرخ في جدران أميركا الساعية لثبات الاصطفاف الأوروبي إلى جانبها في توقعات اشتداد التنافس والخلافات والحروب التجارية مع بكين.