استمع إلى الملخص
- النزوح المتزايد رفع الطلب على الخدمات المصرفية، حيث يعتبرها الكثيرون الخيار الأكثر أماناً لحماية الأموال والمقتنيات في ظل الظروف الأمنية المتدهورة.
- إدراج لبنان في "اللائحة الرمادية" لمجموعة العمل المالي يفرض تحديات على القطاع المصرفي، لكن المصارف اللبنانية تسعى للتكيف عبر الالتزام بالمعايير الدولية وتعزيز الشفافية.
على وقع توسّع رقعة العدوان الإسرائيلي على لبنان في سبتمبر/ أيلول الماضي والتحذيرات المكثفة التي يطلقها جيش الاحتلال بقصف مبانٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت، لجأ النازحون إلى المصارف لإيداع أموالهم وتأمين سلامة مقتنياتهم، رغم أنّ أزمة القطاع المصرفي لا تزال مستمرّة في ظلّ غياب الإصلاحات.
وشهد القطاع المصرفي، في الفترة الأخيرة، ارتفاعاً ملحوظاً في الودائع الدولارية وفي الحسابات الجديدة التي فُتحت خلال الشهرين الماضيين، وأيضاً استئجار الخزائن الحديدية بهدف حفظ الممتلكات الثمينة، وهو ما يؤكده مصدر مصرفي في أحد البنوك في بيروت لـ"العربي الجديد".
ويقول المصدر الذي رفض ذكر اسمه: "لا أرقام بعد حول الحسابات التي جرى فتحها أخيراً على صعيد المصارف اللبنانية ككلّ، ولكن في المصرف لدينا أكثر من 300 حساب فرش دولار (Fresh)، فُتحت منذ أوائل أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حتى اليوم، كما رصدنا تجدّد حركة الحسابات المفتوحة سابقاً بحيث أعاد المودعون تشغيلها ووضع الأموال فيها".
حسابات الدولار وخزائن المصارف
ويضيف المصدر: "هناك أكثر من 300 مليون دولار وضعت في المصرف، وهذه الأموال تشمل الأفراد والشركات، كما جرى استئجار خزائن حديدية بشكل لافت، حيث وضع الناس فيها مقتنياتهم الثمينة والذهب"، لافتاً إلى أنه "صحيح أن الناس ما زالوا يفتقدون الثقة في القطاع المصرفي، ويخشون على أموالهم، ولكن في الوقت نفسه إنّ البنوك تبقى اليوم الخيار الأكثر أماناً، سواء في ظل القصف والحرائق أو إخلاء المنازل السريع، أو حماية للأموال من السرقات، كما أن الأشخاص الذين يفكرون في السفر لا يمكنهم حمل مبالغ ضخمة معهم ولا كميات كبيرة من الذهب، من هنا كان ملجأهم الأفضل المصارف".
في هذا الإطار، يقول أحد النازحين من منطقة الحدث في الضاحية الجنوبية لبيروت لـ"العربي الجديد": "لجأت إلى المصرف من جديد حتى أحمي أموالي، فمنذ أن بدأ جيش الاحتلال بإصدار إنذارات بالإخلاء والقصف بدأت أفكر جدياً بطريقة للحفاظ على جنى عمري، أو للأسف ما تبقى منه بعد الأزمة المصرفية، ورغم أن الثقة لا تزال منعدمة بالقطاع، لكن لا سبيل آخر أمامنا، خصوصاً أنّ حسابات (الفرش دولار) يفترض أن تكون محمية"، مضيفاً "لا يمكنني أن أتنقّل من مكان إلى آخر وأنا أحمل معي الأموال، فاضطررت إلى وضعها في البنك". وحساب الفرش دولار مقترن ببطاقة سحب يمكن طلبها إلكترونياً من خلال تطبيق البنوك.
كما قال أكثر من نازح من الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع لـ"العربي الجديد"، إنّهم فتحوا حسابات فرش دولار في المصارف في العاصمة اللبنانية بعدما اضطروا إلى أخذ أموالهم من بيوتهم، ولا يمكنهم وضعها لا في مدارس ولا في مراكز الايواء المكتظة بالنازحين ولا أمان فيها، ولا في المنازل التي لجأوا إليها للمبيت مؤقتاً، ففضلوا ايداعها في البنك، ولا سيما أنه لم تعد هناك أي منطقة آمنة أو منزل آمن في لبنان بعدما كثف الاحتلال قصفه وطاول أماكن النازحين.
وفي هذا السياق، يوضح كبير الاقتصاديين في مجموعة "بنك بيبلوس" نسيب غبريل، لـ"العربي الجديد"، أنّه "قبل توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان في سبتمبر/ أيلول الماضي، وحسب تقديرات الأرقام الرسمية، كان هناك حوالي مليارين و700 مليون دولار ودائع بحسابات فرش دولار بنحو 220 ألف حساب مصرفي، وبالتالي فإنّ المنحى كان موجوداً حتى قبل اندلاع الحرب في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، خصوصاً من قبل الشركات والمؤسسات والأفراد والتجار، مع الحاجة أيضاً لاستخدام البطاقات الائتمانية".
نزوح الأموال مع المهجرين في لبنان
ويضيف غبريل: "طبعاً عندما توسّع العدوان، زاد التهجير من الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع وبعلبك الهرمل والمدن الجنوبية التي تتعرض للقصف، وذلك بعدما كان النزوح يقتصر حتى شهر أغسطس/ آب على سكان القرى الحدودية والجنوبية الساخنة أمنياً، وما كان عدد النازحين يتجاوز الـ112 ألفاً، بينما نحن اليوم أمام نحو مليون و400 ألف نازح، ومئات البيوت دُمرت بالكامل أو تُنذر بالإخلاء يومياً".
تبعاً لذلك، يقول غبريل: "مع زيادة المخاطر الأمنية، بدأنا نلاحظ ولا سيما في أواخر شهر سبتمبر/ أيلول ومطلع أكتوبر/ تشرين الأول طلباً على فتح حسابات بالدولار الفرش من قبل المواطنين أو إيداع الدولارات في حساباتهم، وأيضاً شهدنا طلباً على استئجار الخزنات بهدف وضع الذهب والصيغة والمستندات المهمة وغيرها من الممتلكات الثمينة".
ويلفت غبريل إلى أنه "لا أرقام رسمية حتى الآن بعدد الحسابات التي فُتِحت أو الأموال التي وُضِعت في البنوك خلال هذه الفترة، ولكن الناس كانوا مع توسّع العدوان أمام خيارات عدة، منها ترك أموالهم في البيوت، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشركات بحفظها في الخزائن الحديدية، أو نقلها من جانب النازحين إلى مناطق وأماكن نزوحهم، أو أخذها معهم إلى خارج لبنان في حال قرروا السفر، علماً أنّ هذه العملية ليست سهلة في حال كانت المبالغ كبيرة، وكذلك إذا كان المحمول ذهباً، إلى جانب خيار وضع الأموال في مؤسسات مالية ظهرت في السنوات الماضية وتحاول تقديم خدمات مصرفية، أو سلوك طريق المصارف".
ويشير غبريل إلى أنّ "جزءاً كبيراً من المواطنين والنازحين والشركات فضلوا سلوك مسار المصارف في ظلّ الوعي الموجود بأن التعاون مع المصارف يبقى أفضل وأكثر أماناً من الخيارات الأخرى، على الرغم من التحفظات التي تطاول القطاع المصرفي وعدم بدء العملية الإصلاحية فيه".
ويضيف كبير الاقتصاديين في مجموعة "بنك بيبلوس" أنّ "الأرقام المذكورة بوجود حوالي مليارين و700 مليون دولار ودائع بحسابات فرش دولار، بنحو 220 ألف حساب، قبل الحرب، فهذا يدل على أنّ هناك وعياً لدى الناس بالحاجة إلى حساب مصرفي، إذ هناك فوائد عدة للتعامل مع المصارف لا تزال موجودة، وهو واقع لا يمكن إهماله"، لافتاً إلى أنّه قبل سنة لاحظنا أن العديد من الشركات فتحت حسابات في المصارف لتوطين رواتب الموظفين، وبالتالي تجنب مخاطر التعامل بالنقد والاقتصاد النقدي، كما لجأ الأفراد إلى القطاع أيضاً لتجنّب حمل مبالغ كبيرة من الكاش.
في المقابل، يشير غبريل إلى أنّه "يفضل ألا نضخم مسألة فتح الحسابات أو إيداع الأموال أو استئجار الخزنات لأننا لا نعرف بعد المبالغ التي وضعت، مع العلم أن موضوع الامتثال بقي هو نفسه، بمعنى أن المصارف طبقت معايير اعرف عميلك بكل تفاصيلها، سواء لناحية وضع أموال جديدة بحسابات موجودة أو فتح حسابات جديدة أو استئجار خزنات".
اللائحة الرمادية
وكان القطاع المصرفي اللبناني قد شهد تطورات جديدة في الآونة الأخيرة مع إدراج لبنان ضمن "اللائحة الرمادية" لمجموعة العمل المالي (FATF).
ورغم هذا الإدراج، شدد الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف في التقرير الشهري للجمعية قبل أيام على أنّ "القطاع المصرفي اللبناني أكد مراراً التزامه بتطبيق جميع المعايير والأنظمة التي تفرضها FATF، وبالتالي، لا تتوقع المصارف أي تأثيرات مباشرة تهدد علاقاتها مع المصارف المراسلة الدولية. غير أن بعض التأثيرات غير المباشرة قد تبرز على المدى الطويل، وتتطلب تخطيطاً واستجابة ملائمة للتعامل معها بشكل فعّال".
ومن تأثيرات اللائحة الرمادية، يقول خلف: "في حين أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لا يشكل تهديداً مباشراً للقطاع المصرفي، إلا أن هناك تأثيرات غير مباشرة قد تظهر تدريجياً، والتي قد تفرض بعض التحديات التي يتعين التعامل معها بعناية، منها تزايد التدقيق من قبل المصارف المراسلة، تراجع في جاذبية الاستثمار الأجنبي، تأثيرات محتملة على التسهيلات المالية الدولية، وتأثيرات على تصنيف الائتمان الدولي".
ويشير إلى أن "مزيداً من التصنيف الائتماني السلبي قد يجعل من الصعب على لبنان، سواء دولةً أم شركات، الحصول على قروض دولية بتكاليف معقولة. ومع أن هذه التداعيات قد لا تكون ملموسة فوراً، فإنها قد تشكل عقبة على المدى الطويل في حال عدم استجابة لبنان لمتطلبات شطب اسمه عن اللائحة الرمادية".
و"رغم ما سبق، لا تزال المصارف اللبنانية واثقة من قدرتها على التعامل مع أي تأثيرات غير مباشرة قد تنشأ عن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. فقد أثبت القطاع المصرفي اللبناني قدرته على التكيف مع التحديات المختلفة منذ بداية الأزمة النظامية في لبنان، خاصة مع حرصه على تعزيز الشفافية، والمحافظة على الكفاءة التشغيلية، والالتزام بالتوجيهات الدولية"، وفق ما يؤكد خلف.