أم كلثوم... سيرة سينمائية في فلسطين

08 فبراير 2025
عرض "نشيد الأمل" في يافا عام 1937 (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت أم كلثوم تحظى بشعبية كبيرة في فلسطين، حيث أحيت حفلات في القدس ويافا وحيفا، مما عزز الروابط الثقافية بين فلسطين ومصر.
- شهدت فلسطين قبل النكبة نهضة سينمائية، حيث عُرضت أفلام أم كلثوم في دور السينما الفلسطينية، وساهم الفلسطينيون في إنتاج أفلام مصرية، مما عزز الهوية الثقافية الفلسطينية.
- تعرضت النهضة الثقافية الفلسطينية للدمار بسبب النكبة عام 1948، لكنها تظل شاهداً على الإبداع والمقاومة الثقافية ضد الاحتلال، مما يعكس غنى الثقافة الفلسطينية.

"أم كلثوم في فلسطين" هو عنوان خبر نُشر في صحيفة فلسطين في الثالث من مايو/أيار 1934. تفاصيل ولغة الخبر مُعلمة ومميزة: "سافر أحمد الجاك متعهد حفلات أم كلثوم في فلسطين وسوريا إلى مصر للاتفاق مع كروانة الشرق المطربة النابغة الآنسة أم كلثوم على إحياء عشرين حفلة في سوريا وفلسطين، ست منها في هذه البلاد فتقام حفلتان في يافا ومثلها في القدس ومثلها في حيفا".

كانت جدتي بهيجة التسعينية المهجَّرة قد حدثتني، في سرد ذكرياتها التي لا تنتهي عن البلاد المسلوبة، كيف أنها شاهدت وهي طفلة فيلماً لأم كلثوم في سينما الحمراء في يافا، في أربعينيات القرن الماضي. أثارت لدي هذه القصص فضول البحث عميقاً في المشهد الفني في فلسطين قبل النكبة الذي شكل حضور أم كلثوم فيه جزءاً هاماً فيه، وهو الفضول الذي انتهى إلى كتاب حول سينما ما قبل النكبة. السطور الآتية بعضٌ مما يرد في الكتاب من تسجيل لنشاط أم كلثوم وفناني مصر والمشرق في فلسطين آنذاك.

زارت أم كلثوم فلسطين مرات عدة في سنوات مختلفة، ومنها ما ذكرته الصحف الفلسطينية الصادرة في فلسطين قبل النكبة في العامين 1933 و1935، إذ غنت على مسارح دور السينما في كل من القدس ويافا وحيفا. وقدّمت مجموعة من الحفلات في صيف عام 1933، في كل من القدس ويافا. وحظي حضور أم كلثوم إلى فلسطين باهتمام صحافي بالغ، فملأت صورها والإعلان عن حفلاتها ومواعيدها بأحجام وأشكال منوعة ومختلفة صفحات الصحف طيلة فترة وجودها. ونقلت الصحف تفاصيل حفلاتها الغنائية ومجرياتها بدقة عالية. يعود ذلك إلى اهتمام الجمهور الفلسطيني بأم كلثوم وبمعرفة أخبارها، وهو الذي عرفها من أفلامها التي عرضت في المدن الفلسطينية، وعرف أغانيها التي أدّتها في أفلامها.

فقد أفردت دور العرض السينمائية ومسارحها مساحة كبيرة للفنانة أم كلثوم منذ بداية صعودها. عُرض فيلم "وداد"، وهو أول أفلام أم كلثوم، في سينما الشرق في القدس، عام 1936، وهو أول فيلم يصوّر في استديو مصر، وأول فيلم مصري يعرض في مهرجان دولي للسينما؛ إذ عُرض في مهرجان البندقية عام 1936. ونشرت صحيفة الدفاع، في 15 ديسمبر/كانون الأول 1936، إعلاناً بحجم كبير، جاء فيه: "فيلم وداد للآنسة أم كلثوم، في سينما الشرق - القدس، ابتداء من يوم الجمعة في 11 كانون الأول ولبقية الأسبوع". وأرفقت صورة للمطربة أم كلثوم في الإعلان. وفي محاولة لجذب الجمهور من خلال الأسعار، أشار الإعلان إلى أن الحفلة بالأسعار العادية فقط، وأسعار الحفلات النهارية كأسعار المسائية التي عادة ما تكون أغلى، وذلك تشجيعاً للجمهور. وضم الفيلم ثماني أغنيات لسيدة الغناء العربي، وشكّل "وداد" أول تعاون بين أم كلثوم والملحن رياض السنباطي، الضلع الثالث في مثلث أم كلثوم وأحمد رامي، من خلال تلحينه الموسيقى التصويرية للفيلم، وتقديم أم كلثوم فيه أغنية "على بلد المحبوب وديني".

وارتبط حضور أم كلثوم بأبرز الأحداث الفلسطينية، مثل افتتاح سينما الحمراء الوطنية، إذ بُذلت جهود ضخمة لإنجاز هذا المشروع الوطني الذي استحوذ على اهتمام شركة السينما الوطنية الفلسطينية وأولوياتها، وخصته بالمال والجهد والعمل، حتى كان يوم الافتتاح لسينما الحمراء الوطنية في يافا يوم الأحد، الموافق 16 مايو/أيار 1937، وسادت في الافتتاح حالة من الفخر العظيم والفرح بهذا الإنجاز. وأعلنت صحيفة فلسطين عن هذا الافتتاح في صفحتها الأولى، بوصفها مفخرة دور السينما في الشرق والغرب، وكان الافتتاح بالعرض الأول لفيلم "نشيد الأمل" لأم كلثوم الذي وصفه الإعلان بأنه فاق كل تقدير وعجز عنه كل وصف.

كذلك، افتُتحت "سينما النهضة العربية" في حيفا بفيلم "وداد" لأم كلثوم، في 17 يونيو/حزيران 1937، وهي أول دار سينما عربية في المدينة، بعد أن اشترت شركة السينما العربية في حيفا سينما "أبيب اليهودية" في شارع يافا في حيفا بجميع محتوياتها، واستلمتها في 31 مايو/أيار 1937. وأزاحت عنها الأعلام والشارات اليهودية، وارتفعت عليها الأعلام العربية، وأطلق عليها اسم "سينما النهضة العربية"، بحسب ما أفادت به صحيفة الدفاع، وذلك ضمن أهداف مشروع "السينما الوطنية" التي قام عليها رجالات فلسطين البارزون، في مواجهة الحركة الصهيونية التي كانت تبني مستعمراتها في فلسطين وتستخدم السينما كأداة لجذب اليهود من كل العالم.

عُرضت أفلام أم كلثوم في أشهر دور العرض في المدن الفلسطينية، مثل سينما ركس في القدس التي عرضت فيلم "دنانير"، وهو ثالث أعمالها، وأنتج عام 1940، بعد فيلمها "نشيد الأمل". في يافا عُرض فيلم "عايدة" في سينما رشيد في 6 يناير/كانون الثاني 1947. كان جمهور سينما الحمراء على موعد مع الفنانة أم كلثوم في الأول من مايو/أيار 1946 في فيلمها الاجتماعي التاريخي الغنائي "سلامة"، واستمر عرضه لأسبوع في ثلاث حفلات يومياً، وعرضت سينما نبيل فيلم "دنانير" لأم كلثوم في 9 فبراير/شباط 1947.

ربما سيكون مفاجئاً لبعضهم أن الأمر لم يتوقف على استضافة أم كلثوم في المدن الفلسطينية، وإقامة الحفلات لها، وعرض أحدث أفلامها، بل أيضاً المساهمة الفلسطينية في إنتاج هذه الأفلام؛ فساهم محمد موسى الحسيني صاحب سينما فاروق في يافا في إنتاج فيلم "نشيد الأمل" بطولة أم كلثوم وزكي طليمات وماري منيب، وإخراج أحمد بدرخان. كان يتم التعاقد على عرض بعض الأفلام قبل البدء في تصويرها بستة أشهر أو سنة، من أجل المساهمة في إنتاج الفيلم، فقد نهض القطاع السينمائي في فلسطين وتطور في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كسوق مهم في البداية للسينما المصرية وكشريك لاحقاً في عملية الإنتاج والتوزيع السينمائي. وارتبط المشهد السينمائي في فلسطين ارتباطاً وثيقاً بتجارة الأفلام بين فلسطين ومصر، فعُرضت أهم وأحدث الأفلام المصرية في دور العرض في المدن الفلسطينية، واهتم أصحاب هذه الدور بالسينما المصرية وإنتاجاتها، ووظفوا مقدراتهم للحصول على حقوق استغلالها لسنوات، فتواصلوا مع شركات الإنتاج والتوزيع، وحرصوا على البقاء على خريطة العرض السينمائي، فكانت فلسطين وشرق الأردن بالمقابل سوقاً مهمّاً لإنتاجات السينما المصرية، ومساحة هامة لنجومها الذين حققوا حضوراً، وإقبالاً جماهيرياً ملحوظاً على أفلامهم.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في صيف عام 1933، قدمت أم كلثوم أشهر حفلاتها في فلسطين، وكتبت صحيفة فلسطين تفاصيل الحفلات في خبر نشر بتاريخ 4 يوليو/تموز 1933، تحت عنوان "انتهاء حفلات أم كلثوم في فلسطين"، مشيرة إلى نجاح حفلاتها في القدس، وحفلتها في يافا، التي حضرها فلسطينيو يافا واللد والرملة وغزة ونابلس وغيرها. وقالت الصحيفة إن أم كلثوم "مطربة الملوك والأمراء، وكروانة الشرق بلا منازع، فقد رأينا الشيوخ يطربون لسماع صوتها العذب قبل الشبان. كما رأينا طائفة كبيرة من الأولاد الصغار يحيطون بها ويطربون لصوتها". أشارت صحيفة فلسطين إلى حفلتها في مقهى البارزيانا الشهير في يافا، وهي من أشهر الحفلات التي كتبت عنها الصحف، فكتب مراسلها: "وقد بلغ من إقبال الناس على حفلات أم كلثوم أن الشوارع التي تحيط بقهوة البارزيانا كانت غاصة، بمن لم تساعدهم أحوالهم الخاصة على دفع 400 مل، ثمن تذكرة الدخول، فاكتفوا بالوقوف في الشوارع والتسلق على الأشجار حتى أن أحدهم سقط من فوق شجرة هناك وكسرت رجله. وقد أُعدت على جانبي المسرح محلات خاصة لجلوس السيدات وزين المسرح بصور أم كلثوم الكبيرة، ووضع عليه قفص كبير فيه كثير من الحساسين التي طربت هي أيضاً بصوت أم كلثوم وأخذت تغرد تغريداً فريداً. يتألف جوق أم كلثوم من ثمانية أشخاص تجلس حضرتها بينهم فتظهر أمام الجمهور بدلالها كأنها أعرق ملكة في الوجود. ولا بد قبل أن نختم هذه الكلمة بالإشارة إلى أن السيد أحمد الجاك، الذي كان ولا يزال المتعهد الأول والوحيد لحفلات أم كلثوم في بر الشام، والذي بفضله استطاعت أم كلثوم أن تكون دائماً محاطة بحرس شرف من (القبضايات) الذين يحرسونها و(يقصفون عمر) كل من يحاول الاقتراب منها".

ونحب أن ننشر هنا قصيدة قد تكون من أجمل القصائد والأدوار التي أنشدتها أم كلثوم في يافا وهي: "أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ... إليها وهل بعد العناق تداني/ فألثمُ فاها كي تزول حزازتي... فيشتد ما ألقى من الهيمان/ كأنَّ فؤادي ليس يَشْفي غليلَه... سوى أنْ يرى الروحَيْن يمتزجان/ ولم يك مقدار الذي بي من الهوى... ليَشْفِيَهُ ما ترشُفُ الشَّفَتانِ".

ومن الإعلانات المميزة عن حفلات أم كلثوم، ما جاء على صفحات صحيفة فلسطين في 27 إبريل/نيسان 1935، الذي ذكر مواعيد حفلاتها على مسارح أشهر دور العرض السينمائية في المدن الفلسطينية، وهي: سينما أديسون في القدس، وسينما عين دور في حيفا، وأوبرا مغربي في يافا. ومما جاء في الإعلان: "مطربة الشرق (الآنسة أم كلثوم)، أعياد الطرب والسرور في مدن فلسطين، بقدوم ملكة الطرب وكروانة القرن العشرين في الشرق، منتخبات من أجمل وأعذب الأغاني تتقدم بها الآنسة أم كلثوم في حفلاتها في مدن فلسطين العامرة. ستحييها على تختها المؤلف من أشهر الموسيقيين ونوابغ الفن، ست حفلات فقط في مدن فلسطين، المقاعد محدودة ومنمرة، احجزوا تذاكركم من الآن، محلات خصوصية للسيدات".

كان المشهد السينمائي في فلسطين غنياً ومزدهراً وواعداً، من ناحية العمل والتوزيع والإنتاج، والتشبيك مع العاملين في الصناعة السينمائية عربياً وعالمياً، بما شكل صناعة قامت وتأسست على أسس وطنية واقتصادية، وبجهد ومساهمة شعبية من قبل الفلسطينيين. وقد قاوم هؤلاء الحركة الصهيونية، وتصدوا لها بكل الطرق، وبكل ما أتيح لهم من أدوات ومقدرات. ورغم خطوات الحركة الصهيونية السريعة في السيطرة على المشهد السينمائي، وتهويده بدعم وتسهيل ومؤازرة من حكومة الاستعمار البريطاني، إلا أن هذه الخطوات، وبحسب ما توصلتُ إليه وما قدمته من حقائق ووثائق ومعلومات على مدار سنوات الاستعمار البريطاني، قوبلت بجهد عظيم من قبل الوطنيين الفلسطينيين. فقد توحدت الجهود الفلسطينية القيادية والشعبية من أجل تحقيق حلمهم، بنهضة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية شاملة، تحققت بإنشاء دور عرض فلسطينية كانت في زمنها على أحدث الطرز والأنساق، واستقطاب الفنانين العرب من كل الأقطار العربية، لخلق حالة فنية ثقافية متكاملة. بيد أن هذا الحراك دُمر وسُلب وتم نهبه بفعل الاحتلال إبان النكبة التي حلت عام 1948، ولم يكتب له الاكتمال، بل إن كل ما بني على الأرض راح في مهب الريح، بالتدمير والاستلاب والتهويد، واختفى في غياهب الكيان المحتل. كل ذلك يؤكد الحقيقة التي أراد الاحتلال تغييبها، هي أن فلسطين كانت بوصلة للإبداع، وأنها كانت عامرة بأهلها وشعبها الذي لم يستنكف عن المقاومة والتصدي في مراحل النضال ومنذ وعد بلفور وهو الذي شكل لبنة للنهضة التي تحققت ورافعة لها، ما يكذب مقولة الصهيونية، أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، لشعب بلا أرض.

فصلٌ من كتاب للكاتبة يصدر قريباً عن السينما في فلسطين قبل النكبة.
المساهمون