استمع إلى الملخص
- فيلم "حياة هادئة" للمخرج ألكسندروس أفراناس يستلهم هذه الظاهرة، ويقدم نقداً للنظام القانوني والطبي من خلال قصة عائلة روسية تسعى للجوء في السويد.
- يتميز الفيلم بأسلوب إخراجي بارد، مع مشاهد بصرية رائعة، لكنه يعاني من بعض الميلودراما، ويعكس التراجيديا الاجتماعية والنقد للسلطوية.
منذ عام 2017، اضطرّ الأطباء في السويد إلى الاعتراف بأنّهم أمام ظاهرة خطرة ومُحيّرة للغاية، لا إزاء مجرّد حالة طارئة أو فردية، وأنّ الأمر يفوق عدد الحالات المماثلة التي تعاملوا معها قبل سنوات. ما قلّل أهمية التعامل الجدّي مع الحالات المرضية، والكشف عنها آنذاك، عدم انتشارها أولاً، ورفض "منظّمة الصحة العالمية" اعتبارها ظاهرة مرضية عامة، لندرتها وطبيعتها الخاصة جداً، ولاقتصارها على السويد فقط. هذه الظاهرة غير المسبوقة، التي تشبه الشلل السريري، والتي أطلق عليها "متلازمة التخلّي" أو "الاستقالة"، تصيب الأطفال، لكنْ ليس أي أطفال.
لا تزال المُسبّبات العلمية الدقيقة لهذه الظاهرة تُحيّر العلماء: تنعدم قدرة الجسد على التحرّك والأكل، ويفقد المرضى تواصلهم تدريجياً مع العالم الخارجي، ولا تصدر منهم إشارات، إلى كونهم نائمين. سريعاً يفقدون جزءاً كبيراً من أوزانهم، فيتوجّب تغذيتهم صناعياً لإبقائهم أحياء، وإلا فالوفاة حتمية.
في سنوات، سجّلت السويد مئات الحالات عند الأطفال والمُراهقين، تحديداً بين 8 و15 عاماً. المُلاحَظ أنّ هؤلاء مهاجرون أو أبناء مهاجرين فقط، مرفوضةٌ طلبات لجوئهم، أو مُهدّدون بالترحيل والطرد. أغلبهم من كوسوفو وصربيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا، وأخيراً سُجّلت إصابات في طائفة "الإيغور"، وبعض جماعات الغجر.
يُذكر أنّ حالات مشابهة قليلة جداً حصلت في أمكنة أخرى، وقبل عقود، كما في الحرب العالمية الثانية، عندما فَقَد الناس كلّ أمل، وعانى الأطفال صدمات عنيفة، ما أدخل الجسد في حالة سبات أو نوم سريري، حماية لنفسه.
تلك الحالة الشاذّة، الواقعية جداً والخالية من التصنّع والادّعاء والخداع، ومجهولة الأسباب علمياً إلى هذه اللحظة، رغم أنّها حماية يفرضها العقل عنوة على الجسد حفاظاً عليه، هذا كلّه محور "حياة هادئة" لليوناني ألكسندروس أفراناس، الذي يخرج من حدوده الجغرافية ولغته الأم لتحقيق جديده هذا. يذهب إلى السويد، ويمزج الإنكليزية بالروسية والسويدية. هذا مُعتاد من مُخرج يجيد الانتقال وصنع الأفلام بأكثر من لغة، والأهم بأساليب فنية متنوّعة، حتّى بالنسبة إلى الأنواع الفيلمية المختلفة التي أنجز فيها أفلاماً غير متشابهة فيما بينها.
في أفلامه قليلة العدد، يُمكن القول إنّه يميل إلى كلّ غريبٍ ومُثير ومُشوّق، يستلهمه من الواقع أو من الأدب. كذلك فإنّ عوالمه وشخصياته تميل إلى الغموض والفرادة والقسوة والجدّة.
موضوع "حياة هادئة" تفوق جاذبيته وبنيته التشويقية براعة في رسم الشخصيات، وقوة وعمقاً في الأداء. لذا، حاول أفراناس تقديم الأحداث الواقعية بأسلوب إخراجي ليس جديداً عليه، لكنه أقرب إلى أسلوب الموجة الجديدة اليونانية، وإلى سينما المخرجة النمساوية جيسيكا هاوسنر وأشباهها.
لماذا تعمّد أفراناس خلق هذه الصورة شبه الجامدة، والأداء الآلي تقريباً، وفصل الجمهور وعدم توحّده أو اندماجه وأحداث الفيلم، رغم أنّ الموضوع لا يتطلّب ولا يحتمل هذا البرود؟ هناك مجازفة بالغة كادت تدفع "حياة هادئة" إلى أجواء الخيال العلمي، وتسقطه في التكلّف والاصطناع، خصوصاً مع البطء الشديد المتعمَّد، والتصوير الميكانيكي، والديكورات اللامعة المصقولة والمتكلّفة بشدة. في حين أنّ الموضوع محتاج إلى معالجة سينمائية تحثّ على التفاعل والاندماج والانغماس في المُشاهدة.
هناك أسئلة كثيرة عن الأسلوب والمعالجة، مقارنة بأفلامٍ سابقة له، مُفعمة بالحركة والحيوية والتشويق. لكنّ المثير للانتباه أنّ ما يستهدفه أفراناس من نقدٍ للنظام القانوني والقضائي والطبي، ومن فضح قسوته ولا إنسانيته وازدواجية معاييره، يصل بقوة وبشكل مرعب، خصوصاً مع شعور سائد بلامبالاة قاسية وغير آدمية إزاء مصير أسرة آخذة في التمزّق.
ينطوي "حياة هادئة"، الذي يحمل نغمة تراوح بين التراجيديا الاجتماعية شبه النفسية والسخرية المريرة من السلطوية، على مشاهد كثيرة رائعة، وتصاميم بصرية جميلة، تعتمد على بنية الديكور وحُسن استغلاله، وعلى توظيف الدراما فيه. كذلك يتضمّن مشاهد ثقيلة وغير ملائمة ومُضرّة فنياً ببنيته، لأنّها ميلودراما فاقعة، أو لتضمّنها مُبالغةً في ردّ الفعل، أو لعدم انسجام الأداء مع الحدث الماثل، أو الأداء إجمالاً.
في "حياة هادئة"، هناك دراما مؤلمة ومؤثّرة، تفضح بشاعة البشر وقسوتهم وازدواجيتهم: قصة سيرغي (غريغوري دوبريغين)، مدير مدرسة روسي سابق يحاول الحصول على لجوء في السويد مع زوجته ناتاليا (تشولبان خاماتوفا) وابنتيهما ألينا وكاتيا (نعومي لامب وميروسلافا باشوتينا). هذه العائلة تظهر أول مرة في بداية الفيلم، في يوم يسبق زيارة موظَّفَين حكوميَّين، قبل لقائها الأخير الذي ربما تُمنح فيه إقامة دائمة. يدخل أفراد الأسرة إلى الكادر واحداً تلو الآخر. يتظاهرون بأنّهم يتهيّأون لالتقاط صورة رسمية. تتعاقب المَشاهد، ويحصل اللقاء، فتتجلى البيروقراطية، وعدم الودّ، والتشكّك. هذا يخلق شعوراً بأنّ العائلة تتحدّث إلى روبوتات لا إلى بشر.
بعد فترة وجيزة من رفض الطلب، بسبب عدم وجود شهادة وشهود مؤكّدين يدعمون موقف سيرغي، تُصاب كاتيا، الابنة الصغرى، بمتلازمة "استقالة الأطفال" التي تُصاب بها شقيقتها أيضاً، فتتطوّر الدراما وتتعقّد، في ظلّ ضرورة الرحيل أو البقاء إلى جوارهما.