"نحن في الداخل": أبٌ يروي ذاته ومدينته كما حالات ومشاعر

20 يناير 2025
فرح قاسم في فيلمها "نحن في الداخل": سرد ممتع بلغته السينمائية (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "نحن في الداخل" (2024) يعرض حوارًا عميقًا بين فرح قاسم ووالدها مصطفى، حيث تتناول حياتها المهنية في السينما وسط سياق اجتماعي وسياسي مضطرب، مما يضفي عمقًا إضافيًا على الفيلم.
- يُعرض الفيلم في "شاشات الواقع: لقاء بيروت للفيلم الوثائقي" في يناير 2025، ويتميز بتصوير سينمائي يركز على الحوار بين الأب والابنة، موثقًا لحظات الغليان الداخلي والخارجي في لبنان قبل وبعد "انتفاضة 17 أكتوبر" 2019.
- يُعتبر الفيلم امتدادًا لعمل فرح السابق، مستكشفًا ذاكرة والدها وحكايات العائلة، ويعكس انشغالها بمستقبل غير واضح المعالم من خلال تصوير يوميات والدها.

 

في الدقيقة 150، تسأل فرح قاسم والدها مصطفى إنْ يعلم سبب إنجازها "نحن في الداخل" (2024). سؤال مفتوح على دقائق حميمة، تنكشف فيها ابنةٌ أمام نفسها وأبيها، ويذهب والدها فيها إلى أصفى تعرٍّ روحيّ، يكتسبه من اختبار سنين مديدة من عيشٍ وكتابة (شعر كلاسيكي) وانهماكٍ (لا واعٍ ربما) في إيجاد منفذٍ يقيه ضغط تربية محافظة ومحاولات شتّى لتحرّر، يستعين من أجله بالشعر أساساً، لكنْ أيضاً بانغماس في يوميات شبابية، كالتعرّف على عاملات جنس في مدينةٍ، تتحوّل إلى التشدّد بعد وصول "أصحاب اللحى" إليها، كما يقول مصطفى. يريد أنْ تتزوّج ابنته فرح لتكتمل فرحته، لكنّه يُدرك أنّ لفرح نجاحاً في مهنتها التي تُحبّ (السينما)، فيرتاح قليلاً.

أيُمكن التغاضي عن تلك الدقائق الحميمة، في كتابةٍ تسبق عرضاً جديداً (الأول لبنانياً) لـ"نحن في الداخل"، غداً الثلاثاء، في النسخة الـ19 (10 ـ 21 يناير/كانون الثاني 2025) لـ"شاشات الواقع: لقاء بيروت للفيلم الوثائقي"؟ أيُمكن سرد حوارٍ بين أبٍ وابنة، أو بين شخصية ومخرجة، في انكشافٍ صريحٍ أمام كاميرا (مدير التصوير: تيبي شونينغ، تصوير: شونينغ وفرح قاسم) تلتقط الحوار من خلفهما، تاركة للصوت أوسع مدى للتعبير والبوح؟ أيكون التعبير/البوح هذان خلاصة نصٍّ سينمائيّ يروي، في 180 دقيقة، حكاية متشعّبة الفصول والسرديات، ومفتوحة على الخاص والعام، ومنغمسة في ثنايا الروح والجسد، وموثّقة فضاءً داخلياً ومدى خارجياً، والخارج مُصابٌ بغليانٍ، منبثقٍ من أحوال بلدٍ، قبل "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) وفيها بعدها، وفي الداخل أيضاً غليانٌ، وإنْ لأسبابٍ أخرى؟

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هذه سيرة مصطفى قاسم بعيني ابنته فرح، السينمائية التي تلتقط شيئاً منها سابقاً، في "أبي يُشبه عبد الناصر" (2012، 33 دقيقة)، والتي تذهب فيه إلى ذاكرة أب، وحكايات عائلة، وفضاءات مدينة، يبدو (الذهاب) صعباً لوهلة أولى، لكنّه يُصبح أجمل لاحقاً، وإنْ يُخيِّمَ حزنٌ، وينفتح على أمكنة خيال ووقائع عيش، وإنْ يلحظ أوجاعاً. هذه (ذاكرة وحكايات وفضاءات) تفاصيل تجد في "نحن في الداخل" مساحات لها أوسع وأعمق، فـ"اللحظة" تستدعي اتّساع المدى في توثيقه سيرة أبٍّ يبلغ 82 عاماً، وانشغال ابنة/مخرجة (1987) بمقبلٍ لن يكون لطيفاً لها، بل قاس، ولن يمنحها عزاءً بل قهر، رغم أنّ للأبّ موقفاً أكثر واقعيةً، ورغم أنّ للابنة إدراكاً بقسوة المقبل.

لكنّ السابق على الدقيقة 150 تلك لن يكون عابراً، بقدر ما يُهيّئ إليها. بل بقدر ما يصنعها. كأنّ فرح، بتصويرها يوميات أبّ مهمومٍ بكتابة الشعر أولاً، تريد فهم تلك اليوميات، لعلّها تعثر على ما يُريح ذاتها من انقباضٍ إزاء مُقبلٍ ترفضه، أو تخشاه، أو ترغب في أنْ تؤجّله، أو تتحاشاه. تصوير دقيق لمسائل تبدو غير مهمّة لغيرها، لكنّها تكشف (المسائل) عالماً خاصّاً بأبيها، وبمحيطه وناسه وأشيائه، وبثقل سنينه وذكرياته وأوجاعه، رغم أنّ بوحَه معطوفٌ إجمالاً على حذرٍ أو تنبّهٍ في انتقاء ما يُسرَد، وكيفية سرده.

المسائل تلك غير محصورة كلّها في "الداخل" (المنزل)، رغم أهمية الداخل هذا في الفيلم كلّه. هناك خارجٌ، أيضاً: أصدقاء، مدينة، ذكريات، جيش، انتفاضة، حركة أناس. كلام مصطفى يُرافق هذا، كلّه أو بعضه، تعليقاً أو سخرية، لكنّ الأهم كتابته الشعر. للسينما، في هذا، حيّز. أفلامٌ يُشاهدها سابقاً، يذكر قليلاً منها في سيارة تقودها فرح في أزقّة المدينة، كما في ذاكرته.

يتضمّن "نحن في الداخل" كَمّاً رائعاً من مرويّاتٍ، مُمتع سردها بتلك اللغة السينمائية الخاصة بفرح قاسم.

المساهمون