استمع إلى الملخص
- تعطلت مصادر السيولة مثل رواتب الموظفين والمساعدات الدولية بسبب تدمير البنوك والمخاوف الأمنية، مما أجبر المواطنين على تبادل الاحتياجات الأساسية مع جيرانهم لتلبية احتياجاتهم اليومية.
- استغل الصرافون الوضع لفرض عمولات مرتفعة، وتعمل شركات صرافة غير مرخصة بشكل غير قانوني. الحلول المقترحة تشمل إدخال النقد بضغط دولي واستخدام وسائل الدفع الإلكتروني، رغم عدم انتشارها الواسع.
يُعمّق الاحتلال الإسرائيلي حالة الجوع في غزة عبر منع إدخال السيولة النقدية منذ بدء حرب الإبادة في أكتوبر عام 2023، ما فتح أبواب استغلال الناس بواسطة تجار وصرافين يفرضون نسب عمولة عالية على النقد.
-نجت معلمة اللغة العربية الثلاثينية نسرين إبراهيم، المقيمة في مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة، من الموت مرتين بعد قصف مدرستين أثناء توجهها لاستلام راتبها بناء على رسائل نصية وصلتها من وزارة المالية (تسلم الرواتب باليد منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، في القطاع، لكنها لم تنجُ من جشع الصرافين الذين طلبوا منها نسبة 25% مقابل تبديل الـ1200 شيكل (327 دولاراً أميركياً)، التي تتقاضاها بأوراق قديمة، إلى أخرى جديدة من العملة ذاتها، وما يتبقى لا يكفي حتى لاحتياجات أبنائها الأربعة الذين تعيلهم بعد نزوح والدهم إلى جنوب القطاع، ولشراء مستلزمات البيت الأساسية، كالدقيق الذي تباع 25 كيلوغراماً منه بـ300 دولار، في ظل ارتفاع الأسعار، وفق روايتها لـ"العربي الجديد".
ما تواجهه الغزية إبراهيم هو أحد مظاهر الأزمة الناتجة عن "عجز المؤسسات الفلسطينية الرسمية وهيئات الأمم المتحدة عن إدخال السيولة النقدية إلى قطاع غزة منذ بداية الحرب، في ظل رفض إسرائيلي ومعيقات أمنية ولوجستية على الأرض، ليجد المواطن نفسه ضحية بين نيران الحرب وصعوبة توفير قوت يومه، واستغلال بعض الصرافين حالة الفوضى وغياب سيادة القانون وتراجع دور المؤسسات الرقابية"، وفق ورقة بحثية أصدرها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة-أمان (منظمة غير حكومية)، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، بعنوان "الرقابة والمساءلة على شركات الصرافة في قطاع غزة في ظل حرب الإبادة"، موضحة أن "المواطنين مجبرون على استبدال العملات الورقية المهترئة من الشيكل، لأنها أصبحت غير مقبولة لدى التجار، ما اضطرهم لبيعها بأقل من قيمتها المالية، رغم أنها تحظى بقوة الإبراء القانوني (عملة قابلة للدفع والإيداع والصرف لدى البنوك والصرافين المرخصين من سلطة النقد)".
استغلال حاجة الناس للسيولة
تعد رواتب الموظفين الحكوميين والمساعدات المقدمة من المؤسسات الدولية والدول المانحة ومداخيل العمال الذين كانوا يشتغلون في الداخل المحتل من أهم مصادر السيولة النقدية في قطاع غزة، وجميعها تعطلت خلال الحرب، إلى جانب خروج الأموال من القطاع مع مغادرة 100 ألف غزّي خلال الفترات التي فُتح فيها معبر رفح، إذ كانوا يدفعون خمسة آلاف دولار لسماسرة مقابل الموافقة على سفرهم، وبكل تأكيد يأخذون ما تبقى من أموالهم معهم، حسب توضيح رئيس قسم السياسة النقدية والأسواق المالية في سلطة النقد الفلسطينية سيف الدين عودة لـ"العربي الجديد".
تعطل البنوك والرواتب والمساعدات فاقم أزمة السيولة النقدية
و"تفاقمت أزمة السيولة النقدية بعد تدمير معظم فروع المصارف، وعدم قدرة الفروع الأخرى على العودة للعمل في ظل المخاوف الأمنية، ما أعاق قدرة الناس على التصرف بكل ما يتعلق بالمعاملات البنكية، ناهيك عن الارتفاع الجنوني لنسب العمولة التي يجبر المواطن على دفعها بالإكراه لدى محلات الصرافة"، وفق الورقة البحثية لمنظمة أمان.
كل ما سبق مهّد لرضوخ المواطنين لاستغلال الصرافين، كما تقول نسرين إبراهيم، التي لم تجد حلاً آخر سوى دفع عمولة مرتفعة. فيما ينتظر آخرون تغيّر نسب العمولة المرتفعة التي يتقاضها الصرافون بهدف حصولهم على مكاسب غير عادلة، وفق العشرينية فاطمة بشير، التي تعمل باحثة ميدانية في مؤسسة بمدينة رام الله، إذ أبقت راتبها ليتراكم لشهرين متتاليين في حسابها البنكي لكونها غير قادرة على سحبه بعد تدمير البنوك، فهي مجبرة على تحويله إلكترونياً إلى حساب أحد الصرافين، على أن يسلمها المبلغ "كاش" بعد اقتطاع عمولة وصلت نسبتها إلى 30%، كما تقول لـ"العربي الجديد".
وتضطر بشير، التي تعيش في مدينة دير البلح، وسط القطاع، لمبادلة بعض الاحتياجات الضرورية مع جارتها بسبب عدم توفر الأموال لديها، وهو ما يفعله ستة غزيين التقاهم معد التحقيق، ومن بينهم آمال إبراهيم، التي تتلقى حوالات مالية بالدولار من ابنها وابنتها الموجودين في الضفة الغربية وسلطنة عمان، لتتمكن من الإنفاق على نفسها وعلى أسرتها، وتنتظر هي الأخرى تغير نسبة العمولة غير المستقرة، كما تقول، مضيفة أنها تبادلت الاحتياجات مع أقارب أو جيران لها لسبع مرات منذ بداية الحرب على غزة.
وفي حال لجأ مواطنون للصرافات الآلية التابعة للبنوك، فإنهم يتعرضون للتهديد والاعتداء من قبل مسلحين للحصول على نسب من الحوالات، كما حدث مع يوسف سيف، الذي أُجبر على دفع 300 دولار لمسلحين ترصدوا له عند الصراف الآلي لدى استلامه حوالة مالية في يناير/ كانون الثاني 2024 في مدينة دير البلح، مقدارها 1000 دولار من ابنة خاله الموجودة في رام الله بهدف نقلها لعائلتها في شمال القطاع.
وهذه الحالة أخذت بالتفاقم خلال مراحل الحرب، حتى إن سلطة النقد ناشدت العشائر في غزة، في إبريل/نيسان الماضي، توفير الحماية للمصارف العاملة جنوبي القطاع من عمليات البلطجة التي وصلت إلى حد إطلاق النار من مسلحين يطالبون بالحصول على نسبة من الأموال المحولة، لأن ذلك يؤثر على السيولة النقدية، وفق ما نشر على الموقع الإلكتروني لسلطة النقد الفلسطينية في 22 إبريل 2024.
وتتزامن أزمة نقص السيولة النقدية مع موجة ارتفاع حادة في أسعار المستهلك، إذ سجلت رقما قياسيا خلال نوفمبر الماضي، وصلت نسبته إلى 28.61%، كما قفز مؤشر غلاء المعيشة بنسبة 490% خلال 14 شهرا من العدوان، بحسب بيانات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (حكومي) المنشورة على موقعه الإلكتروني في نهاية نوفمبر المنصرم.
تضخم الأسعار من شأنه إضعاف القدرة الشرائية للمواطن، ما يفاقم ظاهرة المجاعة وما يترتب عنها من سوء تغذية، كما يوضح رئيس الغرفة التجارية لمحافظات قطاع غزة عائد عوني أبو رمضان لـ"العربي الجديد". وهو ما تؤكده آمال إبراهيم مشيرة إلى أنها لم تشتر الدجاج منذ عشرة أشهر بسبب ارتفاع سعره بعد أن وصل سعر الكيلو منه إلى 200 شيكل (55 دولارا)، وهي بانتظار أن تحصل عليه عبر المساعدات.
تلاعب بأسعار صرف العملات
لا يتوقف الاستغلال في فرض عمولة على استبدال القطع النقدية القديمة، بل إن سعر صرف العملات يمثل خسارة أخرى من قيمة المبلغ المحوّل، وهو ما تواجهه عائشة عبد الهادي، المقيمة في الإمارات، والتي وجدت نفسها مضطرة لدفع عمولة بنسبة 30% مقابل فارق تحويل 1000 دولار أرسلتها إلى غزة في نوفمبر الماضي عبر شركة تحويل للأموال.
تصل العمولة إلى 30% من قيمة الأموال المحولة
وتواصل معدّ التحقيق مع الشركة التي تعاملت معها عبد الهادي في مدينة دير البلح، وأبلغها بأنه موجود خارج فلسطين ويريد تحويل مبلغ من المال بالدولار لعائلته في شمال القطاع، فكان ردها عليه بأن العائلة ستستلم مقابل كل 100 دولار 250 شيكلاً بدلاً من 365 شيكلاً، إذ كان سعر صرف الدولار أثناء لحظة التواصل مع الشركة هو 3.6 شواكل، أي أن ما نسبته 30% ستذهب فارق تحويل عملة. ويستمر مسلسل الاستغلال رغم تحذير سلطة النقد الفلسطينية، في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، الصرافين ومكاتب التحويل من التلاعب بأسعار العملات، حسب عبد الهادي.
ويلقي الصرّاف محمد زعيتر، الذي يعمل في دير البلح، اللوم على التجار والمُستوردين لكونهم السبب في ارتفاع "عمولات التكييش" (تحويل البضاعة إلى سيولة بهدف الحصول على النقد)، حيث يحصل الصرافون على السيولة النقدية من التجار الذين يستوردون البضائع ويقبضون ثمنها من التجار الصغار، وبالتالي تتوفر لديهم السيولة، لكن هؤلاء يتقاضون معدلات فائدة مرتفعة للتكييش، نتيجة لجوئهم للمسلحين من أجل حماية بضاعتهم، ما دفعهم لرفع نسبة العمولة على النقد لتعويض هذه التكاليف، وبعد إضافة هامش ربح للصرافين سيحصل المواطنون على السيولة النقدية بعمولة تتجاوز 25%. مثلاً يقومون بفرض هذه النسبة على وسائل الدفع الإلكتروني، أي أنه إذا قمت بشراء بضاعة ثمنها 1000 دولار يصبح ثمنها بعد العمولة 1250 دولاراً، ويقول إنه اضطر لوقف تقديم خدمة "الكاش" بسبب "ارتفاع سعره نظراً لاحتكاره من بعض التجار الذين يطلبون منه لكونه صرافاً نسبة تفوق 25%".
وإلى جانب نسب العمولة التي يدفعها الفلسطينيون بالإكراه لمحلات الصرافة، والتي تشكل ظاهرة توثقها الورقة البحثية لمنظمة أمان، رصد معدّ التحقيق 20 منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي لغزيين يعرضون تحويل أموال من حسابهم البنكي مقابل الحصول على مبلغ نقدي بعد اقتطاع العمولة. ومن بينهم معتز الخطيب، من دير البلح، الذي نشر على حسابه في "فيسبوك" أنه على استعداد لتحويل مبلغ 2600 شيكل (709 دولارات)، مقابل الحصول على عمولة 600 شيكل (163 دولاراً)، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إنه "يعلم حرمة ذلك شرعاً لكونه ربا، لكنه مضطر في ظل هذه الظروف الصعبة".
شركات صرافة غير مرخصة
منذ تصاعد الحرب أغلقت شركات الصرافة المرخصة والبالغ عددها 35 شركة أبوابها، باستثناء ثلاث منها، بينما استمر مئات الصرافين بالعمل بشكل غير قانوني، والتحكم بالسوق في الوقت الحالي، بحسب عودة، مؤكداً أن 750 صرّافاً كانوا يعملون بطريقة غير قانونية قبل الحرب، وحالياً انخرطت شركات مرخصة وصرافون في عملية دفع العمولة مقابل الكاش لكن بالخفاء، مستغلين تعطّل عمل المؤسسات الرسمية، مثل الشرطة والقضاء وعدم ممارسة سلطة النقد دورها.
"كما سادت ظاهرة الصرافة العشوائية في أكشاك بيع السجائر وأكشاك بيع المعلبات، إضافة إلى الصرافين المتجولين في الأسواق العامة"، وفق الورقة البحثية لمنظمة أمان. وهؤلاء تتوفر بيدهم الأموال لكونهم يبيعون بضاعة للناس، كالسجائر والمعلبات وغيرها، ويستغلون توفر النقد لديهم للصرافة واستغلال الناس، حسب ما توضحه مصادر التحقيق.
والحل الحقيقي الجذري، وفق عودة، وأبو رمضان، هو إدخال النقد من الاحتلال إلى قطاع غزة بضغط وجهد دولي، لكن حتى ذلك الحين يلجأ الغزيون إلى وسائل الدفع الإلكتروني، وهذه أفضل الطرق لتخفيف الأزمة في الوقت الحالي، لكنها لا تحلها نهائياً بسبب عدم انتشار وسائل الدفع الإلكتروني على نطاق واسع، وأيضاً لجوء التجار لتحصيل نسبة عمولة بين 20% و30% على هذا النوع من التعاملات.
وبدأت البنوك الفلسطينية بإيعاز من سلطة النقد بإغلاق حسابات تجار يحتكرون النقد في قطاع غزة بناء على شكاوى قدمت ضدهم، وقد جرى إعداد قائمة بالتعاون مع غرفة التجارة ويجري تحديثها باستمرار بأسمائهم حتى تتم محاسبتهم لدى توقف الحرب، وفي مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أغلق 30 حساباً لتاجر محتكر للنقد، وهي إجراءات لجأت إليها في ظل فشل عملية الضغط على الاحتلال لإدخال النقد وضعف الإجراءات القضائية في القطاع بسبب الحرب، حسب مصدر في جمعية البنوك الفلسطينية فضل عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام.