العمل بـ"الأسود"... العالم الخفي لتطبيقات توصيل الطعام في أميركا

06 ابريل 2025
تحاول بعض الشركات التحقق أسبوعياً من حسابات سائقيها (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه المهاجرون غير الشرعيين في الولايات المتحدة تحديات في العثور على عمل قانوني، مما يدفعهم للعمل في تطبيقات توصيل الطعام، حيث يسمح التحقق المتساهل من الهوية باستئجار حسابات للعمل بشكل غير قانوني، مما يعرضهم لمخاطر الاستغلال والاحتيال.

- يعمل هؤلاء المهاجرون في ظروف صعبة، حيث يواجهون مخاطر السرقة والاعتداء والطقس القاسي، ويعملون لساعات طويلة دون تأمين أو حماية قانونية، مما يعرضهم لخطر الاحتيال المالي.

- رغم المخاطر، يظل العمل في توصيل الطعام جذابًا بسبب الدخل المرتفع، وتواجه الشركات دعاوى قضائية لتحسين ظروف العمل، مع دعوات للتحقيق في استغلال المهاجرين.

تقليلاً للنفقات تغض شركات تطبيقات توصيل الطعام الأميركية الطرف عن تحايل مهاجرين على شروط التسجيل فيها، واستئجار حسابات للعمل بـ"الأسود" (غير المصرح به) ليواجهوا خطر الاستغلال والاحتيال أو تبعات السرقة وحوادث الشغل الخطرة.

حين حزم الثلاثيني المصري محمد السيد أمتعته في فبراير/شباط 2024 قاصداً نيويورك بتأشيرة زيارة ينوي كسرها كان يعلم صعوبة رحلته، لكنها كانت ملاذه الأخير، بعدما أنهكته سبع سنوات عجاف عجز فيها عن إنقاذ مطبعته الخاصة من الإفلاس.

استعد الرجل لكل الاحتمالات، فإقامته غير القانونية ستصعب حصوله على عمل، ولو وجد فسيكون محفوفاً بمشكلات قانونية، ليجد ضالته في تطبيقات توصيل الطعام "دور داش" DoorDash و"أوبر إيتس" Uber Eats و"غراب هب" Grubhub، المسيطرة على الحصة الكبرى من السوق (بنسبة 96% مجتمعة)، وهو عمل لا يحتاج سوى دراجة هوائية استأجرها بـ 150 دولاراً شهرياً وساقين يدور الرزق معهما حيث دارتا.
 
وبينما تفرض التطبيقات إجراءات صارمة لتسجيل حسابات السائقين الجدد، تتساهل في عملية التحقق من هوياتهم، بحسب إفادات عشرة سائقين تحدثوا لـ"العربي الجديد" ممن عملوا بشكل غير شرعي عبر هذه التطبيقات، ومن بينهم السيد الذي استأجر من صديق حساباً بتطبيق DoorDash في مقابل 100 دولار أسبوعياً، ليعمل منتحلا اسمه وهويته، لذا لم يحصل على تعويض يقدمه التطبيق للمتعاقدين القانونيين، حين سرقت دراجته بعد ثلاثة أيام فحسب بمنطقة تشيلسي بمنهاتن، كما دفع غرامة 300 دولار للشركة المؤجرة للدراجة، كذلك لم يكن من حقه الحصول على التأمين العلاجي بعد سقوطه في حفرة بطريق مظلمة، لكونه يعمل مع الشركة بشكل غير قانوني، ومن ثم بقي متعطلاً عن العمل خمسة أشهر جراء إصابته.

الصورة
محادثة معد التحقيق مع محمد السيد
يواجه المهاجرون غير القانونيين خطر الاستغلال والاحتيال أو تبعات السرقة وحوادث الشغل الخطرة (العربي الجديد)

 

العالم الخفي لتطبيقات توصيل الطعام

في تقريرها عن العمل الخفي للمهاجرين غير الشرعيين في قطاع توصيل الطعام، والصادر عام 2022، قالت منظمة picum (أوروبية غير حكومية تدافع عن حقوق المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين) إن "استئجار الحساب لا يقلل دخل الشخص فحسب، بل يعرضه للاستغلال ومخاطر أخرى، فيتيح سيطرة صاحب الحساب على العامل بحجب الأجور، ويمكن أيضاً تهديد العمال غير المسجلين بإنفاذ قوانين الهجرة بحقهم".
 
ما سبق يؤكده الأربعيني المصري أحمد عبد الحفيظ الذي استأجر حساباً لستة أشهر، مشيراً إلى أن غياب التأمين هو الثمن الذي يدفعه العامل غير القانوني، ويضيف لـ"العربي الجديد": "أحاول تجنب المناطق الخطرة مثل برونكس (شمال شرق نيويورك) وجارتها هارلم، وأؤمن دراجتي بأربع سلاسل".
محادثة معد التحقيق مع محمد السيد 2
استئجار الحساب لا يقلل دخل المهاجر غير القانوني فحسب بل يعرضه لمخاطر عديدة (العربي الجديد)

 

ويؤكد تقرير إدارة حماية المستهلك والعامل في مدينة نيويورك  (حكومية) الصادر في يونيو/حزيران عام 2022 تعرض معظم عمال التوصيل لسرقة دراجاتهم أو الاعتداء عليهم، كما يواجهون ظروف طقس قاسية بالإضافة لضغط العملاء الذين قد يتسمون بالسلوك الوقح أو القاسي، وهو ما يؤكده عبد الحفيظ الذي تعرض بشكل شبه يومي لأنماط السلوك الوقح وأحياناً العنصري من عملائه وكان يتجاوزها "تجنباً للمتاعب".

دخل أسبوعي عالٍ يغري المهاجرين غير الشرعيين بالعمل دون تأمين
يرتاح عبد الحفيظ يوما واحدا كل أسبوعين وكذلك محمد السيد الذي عمل بمتوسط 9 ساعات يومياً لتحقيق أكبر عائد مادي ممكن، وهو سلوك منتشر بين أقرانهم، بحسب تقرير إدارة حماية المستهلك والعامل، إذ يعمل 64% من سائقي توصيل الطعام بالولاية 6 أيام أسبوعيًا على الأقل، ورغم ذلك حذر عبدالحفيظ من إمكانية تعرض مستأجر الحساب للاحتيال ويقول: "عادة ما استأجر من صديق أو أقارب، مر علي أكثر من 10 تجارب لأشخاص تعرضوا للاحتيال لأن الأموال تُحوّل على الحساب البنكي لصاحب الحساب الأصلي"، وهو ما يرفضه كريم إسماعيل الذي يؤجر حسابه على "دور داش" لآخرين، قائلا: "ليس من مصلحتي سرقة الأرباح الأسبوعية، لو كتب المتضرر منشورًا واحدًا على إحدى الصفحات فلن يستأجر أحد مني، وسأحرم نفسي من أرباح قادم الأسابيع".

 

محادثة مع المؤجر المصري كريم
تعرض مستأجر الحساب للاحتيال خيار وارد (العربي الجديد)

 

ملاذ الهاربين من بلادهم

يشترط للعمل القانوني في تطبيقات التوصيل، ألا يقل العمر عن 18 ورخصة قيادة حال استخدام دراجة نارية أو سيارة، ورقم الضمان الاجتماعي المخصص للمواطنين الأميركيين والمقيمين المصرح لهم بالعمل، حسبما ذكرت صفحات الشروط والأحكام بالمواقع الرسمية للتطبيقات الثلاثة، وهو ما لا يتاح للمهاجرين غير الشرعيين وأصحاب التأشيرات السياحية، ويدفعهم للعمل بـ"الأسود"، ومن بينهم الفلسطيني علي شعبلو، الذي استأجر حساباً بـ 120 دولاراً أسبوعياً بعد معاناته من البطالة لمدة ستة أشهر عقب وصوله إلى نيويورك بتأشيرة سياحية في سبتمبر/ أيلول 2024، مضيفاً أنه هاجر لتدهور أحوال تجارته للمفروشات في نابلس بسبب "تضييقات الاحتلال والمستوطنين التي باتت جزءاً من حياة الفلسطيني اليومية بعد الحرب على غزة".

 

محادثة معد التحقيق مع علي شعبلو
علي شعبلو، اختار العمل في التوصيل لعدم حاجته إلى معرفة قوية باللغة الإنكليزية (العربي الجديد)

ورصد معد التحقيق ارتفاع طلبات إيجار "دور داش" عن التطبيقين الآخرين، ما يتسق مع سيطرته على 67% من السوق بفارق كبير عن أقرب منافسيه "أوبر إيتس" البالغة حصته 23%، و"غراب هب" المستحوذ على 6%، وفق إحصاءات شركة دليفركت (خاصة أميركية مختصة بتكنولوجيا الأغذية والضيافة) الصادرة عام 2024.

طلبات إيجار للحسابات على مجموعات المهاجرين العرب في أمريكا
طلبات إيجار للحسابات على مجموعات المهاجرين العرب في أميركا (فيسبوك)
ما شجع شعبلو على هذا العمل هو عدم حاجته إلى معرفة قوية باللغة الإنكليزية، وهو ما يناسب كثيرا من المهاجرين العرب البالغ عددهم في ولايتي نيويورك ونيو جيرسي 139 ألف مهاجر يتحدث 76% منهم العربية بينما يتحدث 11% فقط منهم الإنكليزية فقط طبقا لتقديرات "معهد سياسات الهجرة الأميركي" الصادرة في يونيو 2024.
و"المقابل مجز"، بحسب عبد الحفيظ الذي كسب أسبوعياً ماً بين 500 و600 دولار قائلا: "الأمر يستحق المخاطرة، كنت أدفع 100 دولار أسبوعياً لصاحب الحساب مع الاتفاق على تحمله الضرائب، وأعمل من خمس لست ساعات يومياً، لأحصل في الساعة على ما بين 20 و25 دولاراً"، مبرراً بقوله: "حتى أملك حساباً رسمياً لا بد من أوراق قانونية ورقم ضمان لكني جئت بتأشيرة سياحة؛ وحتى لو كانت لدي الأوراق الرسمية فالشركات لا تقبل سائقين جدداً بسهولة وتأخذ وقتاً طويلاً جداً".
متوسط أسعار طلبات التوصيل في نيويورك
متوسط أسعار طلبات التوصيل في نيويورك (فيسبوك)
وبسبب انتهاكات الشركات، رفعت حركة اتحاد عمال التوصيل  Los Deliveristas Unidos، (منظمة في نيويورك تهدف للدفاع عن حقوق عمال التوصيل القانويين) و"مشروع العدالة للعمال" (منظمة غير ربحية أسست في 2010 لتحسين ظروف العمل وتحقيق العدالة الاجتماعية في أماكن العمل) دعوى قضائية على الشركات الثلاث للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور غير المُطبق عليهم بداعي أنهم متعاقدون مستقلون، وهو ما تحقق بحُكم نهائي في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

 

التنازل عن الحقوق

رصد معد التحقيق 130 منشوراً على مجموعات "فيسبوك" للمهاجرين العرب في أميركا، بعضها من راغبين في استئجار حساب فعال، ووسطاء أو أصحاب حسابات يحددون المقابل المادي للإيجار نشرت خلال 2023 و2024، وفي الحد الأقصى يعرض أشخاص حساباتهم للإيجار مقابل 200 و220 دولاراً أسبوعياً، والمتوسط العام كان بين 100 و150 دولاراً تختلف حسب التطبيق والولاية، ويمتد إيجار الحسابات الأسبوعي إلى تقاضي صاحب الحساب نسبة بين 15 و20% من صافي الأجر.
وتغيب التقديرات الرسمية لأعداد عمال التوصيل غير الرسميين في الولايات المتحدة، إذ لا يتوفر بالأساس إجمالي عدد سائقي توصيل الطعام الرسميين في كل الولايات، لاعتبارهم "متعاقدين مستقلين" لا يرتبطون بتعاقد كعاملين في الشركات، غير أن دراسة أجرتها إدارة حماية المستهلك والعامل في نيويورك في نوفمبر 2022 بعنوان "الحد الأدنى لمعدل أجور عمال توصيل تطبيقات الطعام في نيويورك" قدرت الشرعيين منهم بـ 64 ألفاً و416 عاملاً، إذ ارتفع الطلب على النشاط مع الإغلاق المصاحب لـ"كوفيد 19"، دون احتساب عدد العمال غير الشرعيين، الذي يقدره لويس كورتيس مدير Los Deliveristas Unidos (اتحاد عمال التوصيل) بعشرين ألفاً على الأقل في نيويورك وبعشرات الآلاف في أميركا، ويصف لـ"العربي الجديد" وجودهم بأنه "إشكالية للعمال القانونيين وللسوق ككل"، متابعا: "نكافح ليحصل كل العمال على أجر عادل وأمان شخصي ووظيفي لكن الشركات تتجاهل مطالبنا لوجود العمال بدون أوراق ممن لديهم الاستعداد للتنازل عن بعض حقوقهم".
 
إجراءات تحقق قاصرة
تزايد اعتماد المهاجرين على هذا العمل غير الرسمي أثار مخاوف المشرعين الأميركيين، ففي إبريل/ نيسان 2024، طالب أعضاء بمجلس الشيوخ شركات "دور داش"، و"غراب هب"، و"أوبر إيتس" بالتحقيق في استغلال المهاجرين غير الشرعيين للتطبيقات من أجل تحقيق أرباح غير قانونية، ونفت الشركات مؤكدة اعتمادها أنظمة صارمة للتحقق من الهوية، وه وما يعترض عليه كورتيس ويراها غير جادة في إجراءاتها للحد من دخول العمال غير القانونيين إلى السوق، باعتبار أن "العامل الذي لا يملك أوراقاً يسهل استغلاله بأجور أقل وساعات عمل أكثر دون حماية وهذه الشركات تحرص على وجوده لتخفيض تكاليفها".
رد دور داش على العربي الجديد
رد شركة "دور داش" على "العربي الجديد"
وفي ردها عبر البريد الإلكتروني على "العربي الجديد" تتفق الشركات الثلاث على أنها "صممت عملية تحقق من الهويات مكونة من عدة طبقات لمنع الانتحال"، فتقول "غراب هب" إنها استجابت في مايو/ أيار 2024 لاستفسار السيناتور مارشا بلاكبيرن (الجمهورية عن ولاية تينيسي) واجتمعت مع مكتبها "لمناقشة نهجنا تجاه أمن النظام الأساسي، وعرضنا بروتوكولاتنا القوية للتحقق من الهوية، والعمليات الحالية لمراقبة الانتحال ومنعه، والتزامنا بتحسين الأنظمة، فيما بنت شركتنا قدرات لكشف الاحتيال ومشاركة الحسابات"، أما "أوبر إيتس" فتفاخر بإجرءاتها "القوية" للتحقق من الهوية، وأهمها عدم اتصال السائق إلا بعد تأكيد هويته بالتقاط صورة شخصية يراجعها الوكلاء يدوياً، مضيفة أنها بدأت في 2024 عملية لتدقيق الحسابات لكشف الانتحال، بينما يقول جوليان كرولي، مدير اتصالات الثقة والسلامة في "دور داش"، إنها تتحقق أسبوعياً من سائقيها الـ 150 ألفاً "وإذا طُلب من أحدهم التحقق من هويته ولم يتمكن أو رفض، لا يتخطى التحقق، ويلغى تنشيط الحساب حال كشف الانتحال".
 
رد جراب هب على العربي الجديد
رد شركة "غراب هب" على "العربي الجديد"
لكن تأجير الحسابات على أرض الواقع يطرح أسئلة حول التطبيق العملي لهذه السياسات، إذ رصد معد التحقيق عشرات النصائح عبر مجموعات المهاجرين العرب بتفادي تطبيق "أوبر إيتس" واللجوء إلى "دور داش" لأنه لا يطلب صورة يومية لتفعيل الحساب، وهو ما يؤكده السيد الذي استأجره تحديداً لسهولة فحص الهوية مقارنة بـ "أوبر إيتس" الذي يطلب من صاحب الحساب تصوير نفسه قبل الاستخدام "أما دور داش فتفرض هذه الخطوة مرة كل شهرين أو ثلاثة"، وحينها يطلب المستأجر من صاحب الحساب تصوير نفسه، وفق السيد وآخرين.
تقنيات تحديد الهوية عاجزة عن منع انتحال شخصية أصحاب الحسابات
"لا يوجد نظام مثالي، لكن إجراءاتنا الوقائية فعّالة وتقدم نتائج مفيدة" يعود كرولي في رسالة أخرى ليعلن عن حملة شركته ضد مشاركة الحسابات تتضمن المزيد من عمليات التحقق من الهوية، وقال إن الشركة تمنع أسبوعياً 4600 محاولة لإعادة تنشيط حسابات سبق إيقافها لانتهاك سياسات التحقق، فيما أشارت "غراب هب" إلى تعاقدهم مع شركة Incognia،(أميركية مختصة بأنظمة التحقق من الهوية)، لتنفيذ تقنية متقدمة لمنع انتحال الهوية.

 

رد أوبر إيتس على العربي الجديد
رد شركة "أوبر إيتس" على "العربي الجديد"
هذا النظام، وبمعطياته الحالية رغم تطمينات كرولي، لم يمنع السيد ورفاقه من خوض التجربة رغم خطرها، ويرى نفسه محظوظاً لمرور أزمته بسلام، لكن إصابته وضعته تحت ضغط البحث عن عمل جديد دون أوراق، وهو التحدي الأكبر، كما يقول مضيفا، "حذرني الطبيب من قيادة الدراجة مجدداً، لكن إيجاد وظيفة أخرى أصعب بكثير من العمل في الظل".