صراع أشباه الموصلات... نجاح صيني في تخطي العراقيل الأميركية

26 يناير 2025
تتحايل الصين على العقوبات الأميركية عبر شركات وسيطة (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تجاوزت الصين العقوبات الأمريكية في صناعة أشباه الموصلات باستخدام قنوات التفافية وشركات وسيطة، وتطوير بدائل محلية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وتأمين مخزون كافٍ.
- ردًا على القيود الأمريكية، حظرت الصين تصدير تقنيات معالجة المعادن الأرضية النادرة، المستخدمة في صناعات حيوية، مما يعكس التوترات المتبادلة بين البلدين.
- رغم التوترات، يستمر التداخل الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، مع استمرار المفاوضات لضمان سلاسل التوريد، وسعي الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق الإلكترونية.

تمكنت الصين من تخطي العراقيل والعقوبات الأميركية في مجال صناعة أشباه الموصلات المتقدمة، إذ لجأت إلى قنوات التفافية وشركات وسيطة تعمل في الأسواق الرمادية وتخطت عراقيل سلاسل التوريد، كما نجحت في تطوير بديل محلي.

- تراجع حجم أعمال شركة التكنولوجيا المملوكة للأربعينية إيفانكا وانغ، بعد حظر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدين في أكتوبر/تشرين الأول 2022، تصدير شرائح أشباه الموصلات (الرقائق الإلكترونية)، المصنعة في الولايات المتحدة، إلى الصين للحد من قدرات بكين التكنولوجية والحفاظ على الهيمنة الأميركية.

قبل الحظر استوردت شركة وانغ الواقعة في مدينة شينزن جنوب البلاد، الرقائق الإلكترونية الدقيقة المستخدمة في تحسين خدمات الذكاء الاصطناعي من نوع "H100" من شركة "إنفيديا" الأميركية، وبعد المنع لم يكن أمامها سوى اللجوء إلى الأسواق البديلة عبر وكلاء في دول الجوار، ما رفع الأسعار بسبب المرور عبر قنوات التفافية وشركات وسيطة ضمن ما يعرف بالأسواق الرمادية في دول مثل سنغافورة.

"سلكت بكين طرقاً صعبة للمحافظة على مستوى تقدم البلاد التكنولوجي"، كما يشرح المبرمج في شركة التقنية تينسنت، وو جيان، فالصين تعتمد بشكل كبير في صناعاتها الذكية على أميركا، بسبب التأخر النسبي في تصنيع الرقائق الإلكترونية التي تستخدم في تشغيل أجهزة الحاسوب العملاقة ومعدات الذكاء الاصطناعي، مقارنة بدول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.

و"لتدارك هذه الفجوة، استوردت الصين معدات وأشباه الموصلات بقيمة 10.6 مليارات دولار أميركي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، من أجل تأمين مخزون كاف، إلى أن تعزز صناعتها للتغلب على العقوبات الأميركية"، بحسب بيانات بنك باركليز (شركة متعددة الجنسيات متخصصة في الاستثمار والخدمات المالية)، المنشورة على موقعه في يناير/كانون الثاني 2024.

 

عقوبات متبادلة

في أكتوبر 2023، قالت وزيرة التجارة الأميركية السابقة جينا رايموندو، إن هدف قيود أميركا وحلفائها على تجارة الرقائق الدقيقة هو منع وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة التي يمكن أن تغذي الاختراقات في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة في الاستخدامات العسكرية، والأمن السيبراني.

لكن الولايات المتحدة تعتمد بدورها على الإنتاج الصيني للمعادن النادرة المستخدمة في صناعة أشباه الموصلات، سواء من خلال التوريد المباشر من الصين أو غير المباشر في ظل الهيمنة الصينية على الأسواق العالمية، إذ تستحوذ بكين على 53 % من واردات الولايات المتحدة من مادة الغاليوم (تستخدم في صناعة سبائك منخفضة نقطة الانصهار، كما تستخدم بشكل واسع في صناعة أشباه الموصلات)، و54 % من مادة الجرمانيوم (تستخدم في صناعة الترانزستورات والمكوّنات الإلكترونية المختلفة)، وفق ما جاء في تقرير اللجنة الأميركية للمراجعة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين لعام 2023، والصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

تستحوذ بكين على 53% من واردات أميركا من مادة الغاليوم

وضمن سياق عملية مواجهة العقوبات الأميركية و"حماية الأمن والمصالح القومية"، أعلنت وزارة التجارة الصينية في ديسمبر/كانون الأول 2023، حظر تصدير مجموعة من تقنيات معالجة المعادن الأرضية النادرة، مكونة من 17 عنصراً تستخدم في مجالات حيوية بما في ذلك عنفات الرياح والمعدات العسكرية والمركبات الكهربائية، وسبق الأمر، إخضاع تصدير الغاليوم والجرمانيوم، وأكثر من 36 من المعادن ذات الصلة، لضوابط تصدير سرت منذ أغسطس/آب 2023، إذ يستخدم المعدنان في صناعة أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية، وأنظمة الصواريخ.

 

فشل مواجهة الاستيراد عبر دولة ثالثة

في السابع عشر من أكتوبر 2023، أعلن مكتب أمن الصناعة التابع لوزارة التجارة الأميركية على موقعه الإلكتروني عن حزمة جديدة من تدابير مراقبة الصادرات، من أجل تحسين وتشديد الضوابط التي تم وضعها في السابع من أكتوبر 2022، والتي كانت تهدف إلى تقييد قدرة الصين على الحصول على الرقائق الإلكترونية، وتطوير وصيانة أجهزة الحاسوب العملاقة أو تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة. وتفرض القواعد الجديدة متطلبات ترخيص جديدة تستهدف الجهود الرامية إلى التحايل على الضوابط السابقة من خلال التصدير إلى دول ثالثة وسيطة.

ولكن، إلى أي حد ساهمت الإجراءات الأميركية في تقليل الاعتماد أو الحد من ماكينة التصنيع الصينية الهائلة؟ يجيب الأكاديمي المتخصص في العلوم التطبيقية بجامعة نانجينغ، لو تشاونغ، بأن الصين كان لديها دائماً خيارات بديلة للتغلب على العقبات الأميركية في مسار التطور العلمي والتكنولوجي، ومؤخراً سجلت اختراقاً كبيراً في تجاوز القيود المفروضة على تصدير الرقائق الإلكترونية إليها، إذ أعلن مختبر أشباه الموصلات الممول من الدولة "جي إف سي" ومقره ووهان، مطلع أكتوبر 2024، عن إنجاز في تطوير فوتونيات السيليكون وهي أجهزة استشعار كهروبصرية دقيقة تستخدم في مجال تصنيع أشباه الموصلات، وتساعد من خلال دمج المكونات البصرية والإلكترونية على توفير نقل أسرع للبيانات بين الشرائح الدقيقة، وهو ما قد يساعد البلاد، في التغلب على الحواجز التقنية الحالية في تصميم الرقائق وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

ويعد مختبر "جي إف سي"، قاعدة وطنية لأبحاث الفوتونيات، وتمكن بنجاح من دمج مصدر ضوء الليزر مع شريحة تعتمد على السيليكون، وبحسب تشاونغ فإن فوتونيات السيليكون تعتمد على الإشارات الضوئية بدلاً من الإشارات الكهربائية في نقل البيانات. وبهذا الإنجاز تكون الصين قد ملأت واحدة من الثغرات القليلة في تكنولوجيا الإلكترونيات البصرية (مسؤولة عن معالجة قضايا أساسية في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل كفاءة الطاقة وقوة الحوسبة)، مما سيمكنها في المستقبل من تحقيق الاكتفاء الذاتي.

ولكن قبل ذلك، أشار لو تشاونغ، إلى أن الحكومة الصينية وزعت في عام 2022، إعانات بقيمة 12 مليار يوان (1.75 مليار دولار أميركي)، تم منحها إلى 190 شركة أشباه موصلات مسجلة لديها، ضمن مساعي مواجهة العقوبات الأميركية التي تستهدف صناعة الرقائق وتطويرها في الصين.

الصورة
تغلبت الصين على الحواجز التقنية في تصميم الرقائق الإلكترونية

 

تحديات فصل الاعتماد المتبادل

يواجه صنّاع السياسات في كلا البلدين تحديات كبيرة في مسألة فصل الاعتماد المتبادل وإحكام العقوبات وجعلها نافذة، فعلى سبيل المثال، يتجه رجال الأعمال الصينيون إلى ضخ أموال طائلة في شركات الجوار الآسيوي للالتفاف على العقوبات، لذلك عندما يستورد التجار الأميركيون معدات من مصانع في شرق وجنوب آسيا مثل فيتنام وتايلند وإندونيسيا وسنغافورة، فهم في الحقيقة يتعاملون مع شركات تهيمن عليها الصين.

190 شركة أشباه الموصلات صينية تلقت إعانات حكومية

ومنذ قيام إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بفرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية في محاولة لتقليل الاعتماد على بكين، عمدت العديد من المصانع إلى نقل أعمالها وخطوط إنتاجها إلى خارج البر الرئيسي الصيني، وبدأت بالتصنيع تحت أسماء وعلامات تجارية جديدة للالتفاف على العقوبات الأميركية، مثل شركة جيسون الصينية للأثاث ومقرها هانجو شرق البلاد، والتي نقلت أعمالها في عام 2022 إلى فيتنام لتجنب رسوم جمركية أميركية على الواردات الصينية من الأثاث الخشبي بقيمة 25 %، كما يقول أستاذ الدراسات الاقتصادية في جامعة صن يات سن، قوه جيانغ، مشيراً إلى الامتيازات التي تتمتع بها الأسواق الصينية مقارنة بأسواق أخرى في شرق آسيا، ما يجعل بكين عصية على جهود فك الارتباط من الجانب الأميركي، إذ تعتبر آلة التصنيع الصينية الهائلة ووفرة الأيدي العاملة وانخفاض تكاليف التشغيل، سبباً في عدم امتثال بعض الشركات الأميركية العاملة في الصين للقرارات السياسية التي تضغط باتجاه عودتها إلى الديار.

وحسب دليل الحد الأدنى للأجور في الصين، الصادر في أغسطس 2024 عن موقع "تشاينا بريفنغ" (نشرة شهرية تصدر عن مؤسسة متعددة الجنسيات)، فإن الحد الأدنى للأجور الشهرية في 26 منطقة صينية من بينها المدن الصناعية الكبرى مثل بكين وشنغهاي وكوانجو وشينزن، يبلغ ألفي يوان صيني، (275 دولاراً أميركياً). ولفت قوه جيانغ، إلى أن شركات مثل تسلا وأبل حاولت نقل مصانعها خارج الصين، لكنها اصطدمت بصعوبة الحصول على الامتيازات التي توفرها الصين من حيث العمالة والمواد الأولية.

 

تداخل كبير بين اقتصاد البلدين

في رده على سؤال حول كيف يقارب الجانبان مسألة الاعتماد المتبادل على الرغم من تصاعد التوترات؟ قال قوه جيانغ، بأن بكين وواشنطن تدركان أهمية الحفاظ على قنوات التواصل وصعوبة فك الارتباط بينهما في ظل التداخل الكبير بين اقتصادَي البلدين، والاعتماد المتبادل في العديد من القطاعات الحيوية.

ولكن ذلك لا يكفي لإزالة أو تذليل العقبات القائمة والتي تكتسي طابعاً سياسياً وتنطوي على خلافات شائكة في مسائل وقضايا حساسة ترتبط بمفهوم الأمن والسيادة، مثل مسألة تايوان، والنزاع في بحر الصين الجنوبي، وكذلك قضايا التجسس والصراع في الفضاء والأمن السيبراني.

كل هذه النقاط تجعل من الصعوبة بمكان تجاوز فكرة الخصومة والتعامل بسلاسة على قاعدة المصالح المشتركة. وعلى ضوء ذلك توقع قوه جيانغ، أن تستمر المفاوضات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، لضمان عدم تعطيل سلاسل التوريد العالمية تماماً. مع الحفاظ في الوقت نفسه على هامش من المناوشات التي يتخللها فرض عقوبات ومحاولات متكررة لمحاصرة الآخر ومنعه من الاستفادة القصوى مما يوفره الاعتماد المتبادل، ولكن على أن يتم ذلك ضمن قواعد اشتباك محددة لا تدفع باتجاه المواجهة المفتوحة.

إلا أن العقوبات الأميركية ليست كلها شراً، كما يلمس مندوب المبيعات جي تشون، من خلال عمله في شركة مختصة بمعدات تطوير الرقائق الإلكترونية في مدينة شنغهاي، إذ زاد الطلب على الرقائق المصنعة محلياً خصوصاً شرائح سفن نانومتر 7 nanometer التي تصنعها شركة إس أم آي سي SMIC منذ عام 2022، حتى إن أسعارها ارتفعت خلال العام الجاري بنسبة 6 %، ما زاد من عمولته وأرباح شركته، ومن ثم كانت العقوبات الأميركية سبباً في انتعاش قطاع المعدات الخاصة بتطوير الرقائق المحلية والتي بدأت تهيمن على سوق التكنولوجيا الصينية خلال العامين الماضيين.