أوروبا وتحالف ترامب المشروط

06 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:57 (توقيت القدس)
+ الخط -

لم تعد العلاقة عبر الأطلسي تُدار ببلاغة تحالف القيم، بل تُترجَم بلغة عقد المنافع. ما يحدُث اليوم أبعد من انقلاب أميركي على أوروبا، ويرجّح أنه إعادة تسعير لشراكة قديمة: رسوم جمركية تعيد توزيع الكلفة على جانبي الأطلسي، وتعهدات دفاعية أوروبية أثقل، ومسار سلام لأوكرانيا يقوم على قاعدة: ضمانات بلا عضوية، ودعم بلا قوات على الأرض. منطق الصفقة تغلّب على منطق الخطابة، لتدخل أوروبا طوراً جديداً تُلخَّص معادلته بكلمتين: عسكرة الرخاء.

جوهر تحوّل الولايات المتحدة، في عهد ترامب، هو التعامل مع أوروبا ككتلةٍ قادرة يجب أن تدفع أكثر، تدفع تجارياً عبر آلية تعرفة "تبادلية" ترفع كثيراً من السلع الأوروبية إلى سقفٍ نهائي يناهز (15%)؛ وتدفع أمنياً بتحمّل كلفةٍ أكبر لردع روسيا؛ وتدفع سياسياً بقبول هندسة تسوية لأوكرانيا لا تعد بعضوية في حلف شمال الأطلسي (ناتو) في المدى المنظور. قد يُعتبر هذا التحول بالنسبة لأوروبا انتقالاً من الرعاية إلى المقاولة؛ من المظلّة الأميركية إلى المشاركة بالسعر الحقيقي. ولأن السياسة تُعرّف الأشياء بميزان القوة، لا ببلاغة العناوين، تتقدّم الفاتورة على الخطاب، وتتأخّر القيم إلى ما بعد الحساب.

في المقابل، لم تجلس أوروبا متفرّجة، ففي قمة لاهاي (24 و25 يونيو/ حزيران 2025) ثبّتت عملياً هدف 5% من الناتج للدفاع بحلول 2035، منها 3.5% "دفاع صلب" بالمعنى التشغيلي (قوات، تسليح، جاهزية)، والباقي للصناعة الدفاعية والقدرات الداعمة والمرونة المدنية والأمن السيبراني. جوهر الرسالة: الاستقلالية الاستراتيجية لن تولد من البيانات والبيانات الصحافية، بل من مسطرةٍ ماليةٍ قابلةٍ للقياس. لكن السؤال الأوروبي الحقيقي يبدأ بعد الأرقام: هل سيُترجم هذا الهدف إلى قدراتٍ جاهزة للاستخدام خلال أعوام قليلة، أم سيضيع في تفكك المشتريات وتعدد المواصفات وتداخل البرامج؟

عقوداً، موّلت أوروبا رخاءها بسلامٍ مضمونٍ أميركياً، واستهلكت عوائد التجارة لسدّ فجوات السياسة

أوكرانيا هي عداد الحقيقة. واشنطن تميل إلى ضماناتٍ أمنية مشتركة مع أوروبا، وتغلق الباب أمام إرسال قوات برّية أميركية، وتتعامل مع عضوية كييف في "الناتو" احتمالاً "غير ممكن الآن" وفقاً لتصريحات ترامب أخيراً. معنى ذلك أن العبء الردعي والمالي سيتراكم على العواصم الأوروبية، وأن أي "سلام" (إن حدث) سيكون مشروطاً بقدرة أوروبا على الإمساك بخيوط الردع والتمويل وإدارة تبعات وقف إطلاق نار قابلٍ للاهتزاز. لا قيمة لورقة "ضمان" ما لم تُرفَق بجداول زمنية وقدرات محدّدة ومخزونات ذخيرة وخطط نشر وممرات لوجستية تعمل عند الحاجة لا بعد فوات الأوان.

... لا تكفي قراءة المشهد بوصفه صراعاً على السردية؛ الأهم تفكيك مصالح الأطراف وترسيم المسارات المحتملة، ولنبدأ من واشنطن التي تسعى إلى الانتقال من حراسة النظام إلى ترسيم الكلفة، حيث تعيد الإدارة الأميركية تعريف أدوات النفوذ؛ التعرفة بدل المعونة، والضغط الصناعي بدل خطابات التحالف. الردع مكلف، ولا ينبغي، وفق هذا المنطق، أن يبقى عبؤه على دافع الضرائب الأميركي فيما تستثمر اقتصاداتٌ أوروبية "عائد السلام". لذلك تُستخدم التجارة رافعةً سياسية لتقاسم الكلفة: إما فتحٌ أوسع للسوق الأوروبية أمام الصناعة الأميركية في القطاعات الحساسة، وإما تعرفة تعيد موازين التنافس. بالتوازي، تُبقي واشنطن الملف الأوكراني تحت سقف التورّط الأدنى وهي تعيد التموضع نحو التحدّي الصيني؛ أوروبا تردع روسيا في جوارها، وأميركا تُحافظ على اليد العليا في التكنولوجيا والسلاسل العليا للقوة.

بالنسبة إلى أوروبا، فهي تنتقل من استقرار بالوكالة إلى ردع بسوقٍ وجيش. عقوداً، موّلت أوروبا رخاءها بسلامٍ مضمونٍ أميركياً، واستهلكت عوائد التجارة لسدّ فجوات السياسة. اليوم، حزمة المخاطر (روسيا، الطاقة، الهجرة، هشاشة التوافقات الداخلية) تحاصر نموذج الرخاء ذاته. لذلك تتقدّم ثلاثة محاور متداخلة: أولاً، التسليح والصناعة حيث الانتقال من استراتيجية الصناعة الدفاعية الأوروبية (EDIS) وبرنامجها التطبيقي (EDIP) إلى توحيد المعايير والطلبيات المشتركة. وهنا تبدو فلسفة بسيطة: اشترِ أوروبياً قدر الإمكان، سرّع خطوط الإنتاج، وبِع ما تبقّى إلى الخارج. من دون ذلك، سيظلّ الإنفاق رقماً بلا أسنان. ثانياً، المالية العامة: لا تكفي الميزانيات الوطنية؛ ثمة حاجة إلى أداة تمويل مشتركة (سندات دفاع/ تسهيلات على مستوى الاتحاد) لتجنّب تفتت الجهد وضعف القوة التفاوضية. ثالثاً، الهندسة السياسية: لا ردع بلا قابلية استعمال؛ عقيدة عمليات مشتركة، وقدرات نقل وإسناد وذخائر، وبنى لوجستية وصمود سيبراني. يتطلب هذا قراراتٍ غير شعبية واستدامةً عبر دوراتٍ انتخابية عصيّة على المزاجية.

على أوروبا أن تدفع كلفة أمنها كي تحافظ على نموذجيها الاجتماعي والاقتصادي، وعلى الولايات المتحدة أن تتذكّر أنّ تحويل الحلفاء إلى زبائن يربح سريعاً ويخسر شرعية القيادة على المدى البعيد

بينما تبدو المسألة بالنسبة إلى موسكو اختباراً للإرادة وتفتيت الكتلة، إذ تراهن روسيا على فجوات الإرادة، من اختلاف الإيقاعات داخل الديمقراطيات الأوروبية، وصولاً إلى غياب إطارٍ صلبٍ لالتزامات الدعم، وصعوبة إقناع الناخب الأوروبي بتحمّل كلفة الأمن من خلال ضرائب أعلى أو تقليص الإنفاق الاجتماعي لصالح ميزانيات الدفاع. ويتجلّى هذا التباين مثلاً بين ألمانيا التي تباطأت في تسليم الأسلحة الثقيلة رغم إعلانها "زمن التحوّل"، وفرنسا التي تميل إلى مقاربة أكثر استقلالية عن واشنطن، وبولندا ودول البلطيق التي تدفع باتجاه تشدد عسكري وتمويل أكبر للردع على حدودها الشرقية. كلما طال أمد الحرب أو التجميد، ارتفع رصيد الرهان بأن الكلفة السياسية على الغرب ستسبق الكلفة العسكرية على موسكو.

على هذا الأساس، أرجّحُ ثلاثة مساراتٍ واقعية لأوروبا في المدى المتوسّط. في الأوّل، "صفقة الردع الأوروبية"، تنجح بروكسل في إطلاق تمويلٍ مشترك يُقيِّد الإنفاق بمخرجاتٍ صناعية قابلة للقياس، فتُدفَع العواصم إلى توحيد المشتريات في الذخائر والدفاع الجوي والجو – أرض والمنظومات البرية، وتترسّخ قاعدة الـ5% تدريجيّاً مع تحسُّن جودة الصرف، فيقوم عقدٌ ردعيّ عموده 3,5% "صلب" وتذهب البقية للصناعة والبنى؛ عندها يصبح السلام، إن وُلد، محروساً بميزان قوى فعلي، وتتقلّص قابلية موسكو للابتزاز، فيما تُخفَّف آثارُ التعرفة الأميركية عبر تعويض الهوامش بحزمٍ صناعية وتنويعِ الأسواق وتعميقِ الاستثمار في سلاسل التوريد. أمّا المسار الثاني، "السلام المجمَّد والفاتورة المفتوحة"، فينشأ حين تتعثّر الصفقة الدفاعية تحت وطأة الانقسامات والميزانيات فتظلّ الصناعة أسيرةَ التفتّت والازدواجية؛ يُثبَّت وقفُ نارٍ هشّ بضماناتٍ لفظية أكثر منها تشغيلية، وتجد أوروبا نفسها تسدّ مراراً فجواتِ الذخائر والدعم اللوجستي من دون بلوغ عتبة الردع، فيما تستمرّ التعرفة الأميركية كضريبةٍ على الكفاءة تضغط على قطاعاتٍ رئيسية وتتيح مزاحمة الشركات الأميركية في عقود الإعمار والتسليح، فتعلو كلفةُ الأمن من غير مردودٍ استراتيجي مكافئ. وفي المسار الثالث، "الازدواج الأطلسي"، تفضّل واشنطن سلاماً سريعاً بضماناتٍ جوية – استخباراتية وتربط جزءاً من تسليح أوكرانيا بشراء أنظمةٍ أميركية بتمويلٍ أوروبي، بينما تواصل أوروبا مسار تصنيعها الداخلي؛ ينشأ ازدواجٌ وظيفيٌّ قوامه أمنٌ أوروبيٌّ بواجهةٍ أميركية وتقنياتٌ مختلطة يبدو عمليّاً على المدى القصير، لكنه يُبقي أصل المعضلة قائماً: اعتماداً بنيويّاً على البنية التحتية الأميركية (من الأقمار إلى النقل الاستراتيجي وشبكات القيادة والسيطرة)، وتأجيلاً دائماً لسؤال السيادة الدفاعية.

ليست واشنطن خصماً مباشراً لأوروبا، وأوروبا ليست ضحيّة لقواعد تُصاغ من دونها

وماذا تفعل أوروبا الآن؟ لا وقت لوقفةٍ فكريةٍ منفصلة عن قفزةٍ عملية؛ المطلوب حزمةٌ متماسكة تقوم على خمس ركائز مترابطة: ربط المال بالمخرجات، بحيث تُقاس كلّ زيادة إنفاق بخطوط إنتاجٍ مُضافة وسرعاتِ تسليمٍ أعلى ومخزونٍ جاهزٍ أكبر لا باعتماداتٍ فضفاضة. توحيد المواصفات والاختبارات عبر قائمة "قدراتٍ مشتركةٍ أساسية" تُنتج وتُشترى بنماذج موحّدة تُخفّض الكلفة وتسرّع التسليم وتُكامل المخزونات عبر الحدود. تحصين سلاسل التوريد الحرجة -المواد الدافعة والإلكترونيات الدقيقة ومساحيق الذخائر وأشباه الموصلات الدفاعية - بوصفها شرطَ توازنٍ جوهريّاً لا ترفاً صناعيّاً. بناءُ عقيدةِ عملياتٍ مشتركةٍ تُنظّم التدريبَ المتعدّدَ الجنسيات، وخططَ التعبئة، وممرّاتِ النقل العسكري العابرة للحدود، ومراكزَ القيادة والسيطرة، مع تحصينِ البنية السيبرانية. انتهاجُ سياسةٍ صناعيةٍ ذكيّةٍ تُوجِّه الدعم من غير قتل المنافسة، وتفتح منافذَ تمويلٍ مشتركة، قروضاً أو سنداتِ دفاع، تُخفّف فجوةَ الدول الأضعف ماليّاً وتمنع تضارب الحوافز.

أفضّل أن أبقي التحليل بعيداً عن الثنائية المضلِّلة: ليست واشنطن خصماً مباشراً لأوروبا، وأوروبا ليست ضحيّة لقواعد تُصاغ من دونها. ما يجري هو فطامٌ استراتيجي بكل ما يحمله من ألم: على القارّة أن تدفع كلفة أمنها كي تحافظ على نموذجيها الاجتماعي والاقتصادي، وعلى الولايات المتحدة أن تتذكّر أنّ تحويل الحلفاء إلى زبائن يربح سريعاً ويخسر شرعية القيادة على المدى البعيد.

الحساب بسيط وقاسٍ في آن؛ إذا كانت تعرفة الـ15% ضريبة العبور إلى سوقٍ أميركية أكثر حمائيّة، فإن 5% دفاعاً ضريبة البقاء في جغرافيا أقلّ رحمة. ليس الخيار بين "الانصياع" و"الاستقلال"، بل بين صفقة متوازنة ترفع أوروبا إلى قطبٍ ردعيّ قادر، وفاتورة مفتوحة تُبقي قرارها مرتهناً لغيرها وتقلبات داخلها معاً. الطريق الأول مكلف الآن لكنه مُجْدٍ؛ الثاني أرخص اليوم وأغلى غداً. وعندما تُعرض على الطاولة كلمات مطمئنة، من قبيل "ضمانات" و"تبادل" و"وقف شامل"، فالسؤال الصحيح ليس: ماذا تقول الورقة؟ بل: ما الذي تسمح به القدرة؟ كم طلقة في المخازن؟ كم ساعة لزمن الاستجابة؟ وكم شهراً لتسليم الدفعة التالية؟ هناك فقط، بين المصنع والجاهزيّة، تُحسَم مصائر التحالف المشروط.