اتفاق وُجد ليستمر

04 فبراير 2025
+ الخط -

لم تنتهِ الحربُ في غزّة، ولم يتحقّق الهدوء الكامل، كما في حالات كثيرة تلت الحروب في المنطقة. هكذا يمكن توصيف الحال في غزّة بعد إعلان الدوحة أخيراً. ومع هذا، فإن أكثر الأسئلة إثارةً للقلق، بالنسبة لسكّان غزّة على الأقلّ، يظل فكرة عودة الحرب، وإذا ما كان الاتفاق سيصمُد، وإذا ما كان الوسطاء سينجحون بعد انتهاء المرحلة الأولى في التوصّل إلى اتفاق بشأن المرحلة الثانية.
سرّ استمرار هذا الاتفاق (للمفارقة) سيكون ضعفه، واحتمال تطوّره هو الخوف المستمرّ من فشله، بحيث يدفع هذا الضعف إلى مواصلة الجهد من أجل تعزيزه. قد تحدث اختراقات وستحدُث، وقد تصل الأطراف إلى لحظات اشتباك محدودة مثلما أطلق الجيش الإسرائيلي في خامس يوم للتهدئة النار على مسلّحين في رفح، ولكن في المحصّلة، سيكون الحفاظ على الاتفاق مصلحةً مشتركةً للأطراف المتعاقدة. والاتفاقات القوية والصلبة عادةً هي التي تنكسر أمام أول اختبار، إذ إن الصرامة (والتشدّد) في بنودها، التي يقاتل من أجل صياغتها المتحاورون هي ما تجعل كسرها سهلاً، لذا قد لا تصمد. ومرّة أخرى، المفارقة أن اتفاق التهدئة في غزّة، الذي لم يسعَ إلى حلّ النزاع، ولا إلى وقف الحرب بشكل كامل، سيعني، ضمن أشياء كثيرة، وقف هذه الحرب.

سرّ استمرار اتفاق غزّة (للمفارقة) سيكون ضعفه، واحتمال تطوّره الخوف المستمرّ من فشله، بحيث يدفع هذا الضعف إلى مواصلة الجهد من أجل تعزيزه

بالنسبة إلى نتنياهو الذي كان أكثر من طوّر مفهوم "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين، يساعده الاتفاق في مواصلة الادعاء بمحاربة غزّة، وبمواصلة الجهود للقضاء على وجود حركة حماس هناك، وفي الوقت نفسه، يخرجه من حالة التوتّر، التي أوجدتها حقيقة أنه لم يتمكّن من تحرير الأسرى الإسرائيليين داخل القطاع الضيّق. بالنسبة إلى أهالي الأسرى، لن تحقّق الحرب غاياتها من دون أن يروا أبناءهم وبناتهم أمامهم، ونتنياهو يدرك أنه لا يستطيع أن يدّعى بعد 15 شهراً أن الجيش يعمل جهده من أجل إطلاق سراح هؤلاء، إذ إنه، باستثناء اتفاق التبادل الأول في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وبعد ذلك تحرير بعض الأسرى في عملية عسكرية في النصيرات، لم يفلح الجيش في إعادة أي شخص إلى البيت. وعليه، فإن التلاعب بالمصطلحات والصياغات اللغوية لن ينطلي على أمّ تنتظر ابنها، ولا على زوج ينتظر زوجته، لأن الأمور ستقاس بخواتيمها، والنتائج هي الدال الحقيقي على الأفعال. لذلك فإن نتنياهو بقدر ما يدرك أن الاتفاق يشكّل تراجعاً منه، إلا أنه يعرف أنه سيعزز مواقعه أكثر، وربّما يزيد الالتفاف الجماهيري حول مطالبه التي يصوغها بطريقة غامضة وغير مترابطة، ولكن هذا لن يكون إلا بعد أن يُطلَق سراح جميع الأسرى، فيمكن له أن يقول إنه سيبدأ المرحلة الجديدة التي لا يكون فيها قطاع غزّة مصدرَ تهديد لإسرائيل في المستقبل المنظور؛ وربّما البعيد.
لا يؤمن نتنياهو بأن الصراع مع الفلسطينيين يمكن أن ينتهي، لذا لا يمكن بذل أيّ جهود قد تغيّر هذه الحقيقة، بل على العكس، يجب التأكّد دائماً من جعل الفلسطينيين مصدر تهديد لإسرائيل، لذلك لا يريد مثلاً أن يتفاوض مع السلطة، ولا أن يصل إلى اتفاق سلام معها، كما لن يرغب في أن يرى الوضع في غزّة مستقرّاً بشكل نهائي. تأسيساً على هذا الفهم، سيحافظ نتنياهو على علاقة اشتباك دائمة مع غزّة، لكنها لن تكون حالة حرب مستمرّة، لذلك فإن التهدئة والنقاش حولها، والسعي من أجلها، هو ما يميّز المرحلة الحالية من "إدارة الصراع" مع غزّة.
ذهب كاتب هذه السطور، في مقال سابق، إلى أننا سنشهد "عملية تهدئة"، فتكون العملية أكثر أهمية من التهدئة نفسها. هذا كان جوهر الاحتواء الأميركي للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل في عملية السلام. أن توجد عملية سلام أهم من وجود السلام نفسه، لأن تحقيق السلام هو غاية العملية نفسها. أظنّها كونداليزا رايس من قالت إن الإيهام بالحركة مهمّ، إذ يتولّد لدى جميع الأطراف الإحساس بأن الامور تتحرّك، ويتحدّث المراقبون عن تطوّرات محتملة، وعن دفع باتجاه إحداث اختراق. هذا وفق بعض نظريات التأثير يُحدِث انزياحاً، ليس فقط في انطباع المراقبين، بل في سلوكات الفاعلين. هذا المنطق هو ما أوجد الدائرة المفرغة، التي جعلت المفاوضات تستمرّ عقوداً.

ترى الأطراف الثلاثة المعنية بالاتفاق نفسها قد انتصرت، فلكلٍّ قصّته وراء هذا النصر؛ إسرائيل و"حماس" والوسطاء


في ما يتعلق بالوضع في غزّة، أعطى السياق الجديد، الذي نتج من "عملية التهدئة"، انطباعاً بأن الحرب توقّفت، بل وقف العالم مندهشاً من قدرة الرئيس الأميركي الجديد، ترامب، على فرض التهدئة على الأطراف كافّة. وهذا يعني الكثير بالنسبة إلى إسرائيل، إذ أفقدتها الحرب كثيراً من الدعم الذي كانت تتمتّع به في العالم، وحوّلتها دولةً خارجةً عن القانون، وصارت موضع نقد مستمرّ في المحافل كلّها، وتعرّض جنودها وجنرالاتها للملاحقة؛ حتى قادة الدولة صدرت في حقّهم مذكّرات اعتقال. هذا الوضع بالنسبة إلى إسرائيل، وما ستسعى إلى تحقيقه، يجب أن يتغيّر لأن الحرب انتهت، على الأقلّ، هذا ما يجب أن يقتنع به العالم، وهو ما تروّجه سياسات الدول الكبرى. بالنسبة إلى نتنياهو، يجب أن يفهم العالم الآن أن إسرائيل لم تعد في غزّة، ولم تعد تواصل حربها، فالحرب انتهت، وهناك اتفاق مع الطرف الفلسطيني، "حماس" بالخصوص، وهناك ضامن دولي يتمثّل في الولايات المتحدة، وقوى إقليمية في المنطقة، بل هناك تطوير لتوجّهات وخطط دولية لإعادة إعمار غزّة، وبناء جهاز إداري فيها (لا أحد يعرف شكله ولا من يقوده؛ على الأقلّ وفق المُعلَن). وعليه، حقّق نتنياهو ما أراد من أن الحرب انتهت من دون أن تتوقّف عجلة القتال في حقيقة الأمر، فهو يستطيع أن يواصل تنفيذ بعض العمليات داخل القطاع، ويواصل فرض حصار مشدّد على القطاع، وهذه المرّة بوجود شركات أجنبية تقوم بالعمل نيابةً عنه، وبوجود قوة الاتحاد الأوروبي في معبر رفح الحدودي. وبالتالي، يتأكّد من خنق القطاع، ومن منع تسليح "حماس".
هكذا كان الوضع بعد اتفاق أوسلو (1993)، فبينما كان العالم يتحدّث عن السلام، كانت إسرائيل تواصل الاستيطان، وتعزيز الوجود اليهودي في الضفة الغربية، وابتلاع مزيد من الأراضي، والاجتياحات والاشتباك اليومي. في حالة غزّة، الأمر مختلف قليلاً من حيث النتائج المرجوّة، لكنّ الفكرة نفسها تظلّ قائمةً. تتطلّب إدارة الصراع في غزّة أن يتوقّف النقد لإسرائيل بسبب الحرب، ويتحوّل خطاب العالم من الحديث عن المجازر والدمار إلى الحديث عن الجهود التي تبذلها الأطراف، بما في ذلك إسرائيل، من أجل تحقيق التهدئة، وفي الوقت نفسه، تواصل إسرائيل إجراءات مختلفة تضمن سلامها وأمنها؛ وهذه تشمل استخدام القوة في السياقات المطلوبة والضرورية وفق الحاجة الأمنية الإسرائيلية، كما تراها إسرائيل نفسها.

الأمور تتحرّك، لكنّها تراوح مكانها مثل الركض على عجلة المشي الرياضية. يعتقد الجميع أننا نركض، فيما نحن واقفون في المكان نفسه


هذه هي إدارة الصراع في غزّة كما يراها نتنياهو. الأمور تتحرّك، لكنّها تراوح مكانها مثل الركض على عجلة المشي الرياضية. يعتقد الجميع أننا نركض، فيما نحن واقفون في المكان نفسه. مرّة أخرى، ترى الأطراف الثلاثة المعنية بالاتفاق نفسها قد انتصرت، فلكلٍّ قصّته وراء هذا النصر؛ إسرائيل و"حماس" والوسطاء.
ستكون الحالة التي سنعيشها عمليةً مستمرّةً من التوتر والهدوء في الآن نفسه، على الأقلّ في المستقبل المنظور، فلا تُوقَف محرّكات السيّارات العسكرية، وفي الوقت نفسه، يواصل العالم حديثه الإيجابي عن جهود التهدئة في غزّة، بدلاً من الحديث عن الحرب. ومع الوقت، سيتراجع التوتّر تدريجياً، وتنتهي الحرب بشكل فعلي من دون إعلان ذلك، لأن انتهاء الحرب فعلياً سيعني الحاجةَ إلى جردة حساب ومحاكمات داخلية... وما إلى ذلك، وهو أمر غير مرغوب به. لن تكون صافرة نهاية في هذا الوضع، بل سيواصل اللاعبون الوجود في الملعب، فيما سينشغل المتفرّجون بتفاصيل جانبية لا تتعلّق بمشاهدة ما سيحدث.
قبل أشهر، دوّن كاتب شابّ من غزّة في صحفته بـ"فيسبوك"، قبل أن يستشهد، "لا تعتادوا المشهد"... سنعتاد يا صديقي، وسيتحوّل المشهد أمراً طبيعياً لا مفرّ منه، مُجرَّد تفصيل آخر من الحياة التي يعيشها العالم، فلدى العالم أيضاً مشاغل أخرى، وترامب نفسه، الذي استخدم قوته كلّها من أجل فرض ما جرى، لديه أيضاً قضايا أخرى عليه أن يمارس بعض مصادر قوته من أجل تحقيقها، تنفيذاً لوعوده الانتخابية، مثل إنهاء الحرب أيضاً في أوكرانيا، متجنّباً التوتّر، الذي لمّح إليه قبل أيام، مع روسيا.
هذا الاتفاق، وبغضّ النظر عما ستؤول إليه الأحداث، سيستمرّ وستشهد التهدئة فترات توتّر معقولة، لكن الطريق إلى التهدئة يظلّ هو البحث عن التهدئة ذاتها.

عاطف أبو سيف
عاطف أبو سيف
روائي وقاص فلسطيني، وزير الثقافة السابق.