الشكر بالأمر في مصر

31 مارس 2025

نائب رئيس الوزراء وزير الصحة المصري خالد عبد الغفار في شرم الشيخ (8/11/2022 فرانس برس)

+ الخط -

لا سوابق تاريخية في مصر لأن يطلب مسؤول رفيع من المواطنين تقديم الشكر والامتنان إلى الدولة على ما تقوم به تجاههم. وهذه ليست فقط واقعة تثير التساؤل عن مدى إدراك المسؤولين طبيعة أدوارهم ومواقعهم في الحياة العامة، بل هي مدعاة للأسى والغضب لما آلت إليه العلاقة بين القائمين على إدارة الدولة وعموم المصريين. فقد ذهب نائب رئيس الوزراء وزير الصحة المصري خالد عبد الغفار لتفقد أحد المشافي في محافظة المنيا (صعيد مصر). وبسؤاله بعض مرضى الغسيل الكلوي عن أحوالهم ومستوى الخدمة الطبية المقدّمة، فوجئ بأكثر من شكوى عن طول أمد الانتظار وسوء المعاملة من العاملين في المشفى، وشبّهها أحد المرضى بمعاملة "تلاميذ في مدرسة ابتدائية". وبدلاً من تلقّي شكاوى المرضى بروح المسؤولية والإيعاز للمسؤولين المرافقين بمعالجة أسباب هذه الشكوى من مؤسسة علاجية جرى تطويرها حديثاً، إذا بالوزير الذي يتولى، إلى جانب حقيبته الوزارية، منصب نائب رئيس الحكومة، يُبدي دهشته من تعدّد شكاوى المرضى، ويطالبهم بأن يشكروا الدولة أولاً على تطوير المشفى وتحديثه.

بالتأكيد، لم يكن تعالي وزير الصحة المصرية ومِنّته على المرضى بدافع شخصي، خاصة مع محاولته استدراك الموقف بالقول إن ما قامت به الدولة هو حق لهؤلاء. لكن في كلامه العفوي عن ضرورة الشكر، ومسارعته إلى مقاطعة كلام المرضى عن السلبيات والمثالب، ومطالبته لهم بتقدير ما قدّمته لهم الدولة، تجسيد واضح لخلل سائد لدى غالبية المسؤولين الحكوميين في مستويات مختلفة. يتركّز الخلل في إدراك المسؤول دوره الوظيفي وتصوره طبيعة العلاقة بين منصبه، أو مؤسّسته، والمواطنين الذي يتعاملون معه أو مع تلك المؤسسة، فالوزير صاحب الواقعة لا يرى دوره خدمياً أو أن خدمة المواطنين جوهر عمله وحق مطلق لهم، ومسؤوليته كاملة عن أي تأخيرٍ لهذا الحق أو انتقاص منه. والتوجه العام السائد لدى الوزراء والمسؤولين، بل وبعض صغار الموظفين العموميين في مصر، أن مجرّد القيام بالعمل وتقديم الخدمة فضل منهم عظيم. وأي ملاحظة أو شكوى ليست سوى جحود ونكران "جميل" الحكومة.

هذا الفهم المعكوس نتيجة منطقية لحالة نرجسية مزمنة لدى حكومات مصر، فالوزراء والمسؤولون (في مراياهم الذاتية) لا يخطئون أبداً ولا يتحمّلون مسؤولية الفشل في إدارة الدولة، وأية مشكلة أو أزمة أو فشل سببها المباشر الشعب أو حروب ومشكلات في العالم أو حتى الطبيعة الكونية. المهم أن السبب ليس الحكومة والخطأ ليس من عندها ولا مسؤولية عليها (!). والدليل أن الوزير الذي يَمنّ على المرضى ويطالبهم بشُكر الحكومة لم يواجه نفسه بأن مرض الفشل الكلوي نتاج مباشر لتلوث المياه والهواء والغذاء. ولم يكلف نفسه عناء التحرّي أو التحقيق في سوء معاملة الموظفين المرضى، وهي مسألة إدارية لا صلة لها بتحديث المنشأة أو تطوير الخدمة الطبية فيها.

وفضلاً عن التنصّل من أية مسؤوليات أو أخطاء، لا تعدم السلطة في مصر الحجج والتبريرات، فداخلياً، تتذرّع بالزيادة السكانية، وثقافة الاستهلاك، والفجوة بين التعليم وسوق العمل. وخارجياً، تُسأل عن أزمات مصر جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا، ثم حرب غزّة. رغم أن السكان قوة ومورد إذا أُحسنت الاستفادة منهم، وأهل أوكرانيا لا يعانون اقتصادياً كالمصريين، ومن يعيشون في "دولة فلسطين" أكثر سعادة من مواطني القاهرة.

المشكلة أن المسؤولين في مصر يعتبرون المواطن شحّاذاً أو كائناً تعوله الحكومة، بينما هو غير منتج لا فائدة منه. ولذا لا حقوق له، بل عليه أن يمتن كثيراً للحكومة على أي خدمة ولو سيئة أو سلعة ولو فاسدة. أما وزراؤها فملائكة لا وزر عليهم، إنما يُستوزرون ليُشكروا ولا يُسألوا.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.