الصين سعيدةٌ بما يفعله ترامب
على عكس ما توقّع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأركان إدارته، لم تُبدِ الصينُ ذعراً أو قلقاً من إجراءات فرض الرسوم الجمركية التي أعلنتها الولايات المتحدة على البضائع الصينية الواردة إليها، وبلغت نسبتها 145% في آخر إضافة، ولم يسارع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للاتصال بنظيره الأميركي طالباً التفاوض كما توقّع الأخير. على العكس، بدت الصين مستعدّة للتخلّي عن السوق الأميركية التي ظلّت عدّة عقود رافعةً أساسيةً لتوسّع الصين في صادراتها وأرباحها منذ إطلاقها خطّة الإصلاح والانفتاح في عام 1978، مروراً بالانتقال إلى مفاهيم التجارة العالمية التي سادت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، منذ مطلع تسعينيّات القرن العشرين.
وربّما تكون الصين سعيدةً بهذه السياسة الأميركية الجديدة، وهي في كلّ الأحوال لم تكن مفاجئة، بل متوقّعة انطلاقاً من تصريحات ترامب في أثناء حملته الانتخابية. وإذا كانت الصين فضّلت عودة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة على استمرار الرئيس جو بايدن أو فوز نائبته كامالا هاريس، فذلك يعني أنها كانت ترحّب ضمنياً بما ينوي ترامب فعله تجاهها، وتجاه العالم كلّه.
ربّما تكون الصين سعيدةً بالسياسة الأميركية الجديدة، التي كانت متوقّعة انطلاقاً من تصريحات الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية
لماذا يمكن أن تكون الصين سعيدةً ومرحّبةً بإجراءات الإدارة الأميركية، رغم ما يمكن أن ينجم عنها من تعطيل التجارة الصينية؟... يمكن القول إن ثمة خمسة أسباب، أولها أن الصين تحوّلت من متهمة إلى مشتكية، فالإجراءات الجمركية الأميركية التي أثارت امتعاض العالم، جعلت التهمة التي أطلقها بايدن في حقّ الصين جزءاً من الماضي، متمثلة في أنها تريد غزو تايوان كما فعلت روسيا مع أوكرانيا، وابتلاعها بالقوة العسكرية. لقد التفت الانتباه العالمي اليوم عن الشكّ في الصين بخصوص احتلال تايوان، بل على العكس، باتت اتهامات الصين للولايات المتحدة أنها تقوّض مبادئ التجارة العالمية التي قامت عليها العولمة أكثر شرعية، لأنها ماثلة للعيان فعلاً. لقد تحوّلت الصين بفضل قرارات ترامب الجمركية من متهمة بالعمل على غزو تايوان وتقويض السلم الدولي، إلى مشتكية تدافع عن مبادئ منظمة التجارة العالمية، وتسعى إلى حماية المصالح الدولية.
يتمثّل السبب الثاني في هدم النظام العالمي أحادي القطبية، إذ اشتغلت الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة بالتبشير بنهائية النظام العالمي أحادي القطبية الذي تتزعمه، أي باعتباره "نهاية التاريخ". وعندما راحت الصين تتململ مطلقةً مبادرة الحزام والطريق، مع وصول الرئيس شي إلى السلطة في عام 2013، نحت الولايات المتحدة لمواجهة الصين بالترهيب تارة، والترغيب تارة أخرى، من أجل حثّها على البقاء جزءاً من النظام العالمي القائم، والذي كانت فعلياً أحد أكبر المستفيدين منه عبر تعزيز عوائدها وقدراتها التنموية من خلال ثنائية "توسيع التجارة الخارجية وجلب الاستثمارات الأجنبية". اليوم، بينما تتحدّث الصين عن نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، يوجّه ترامب ضربةً قويةً للنظام العالمي أحادي القطبية بتخلّيه عن حلفائه، ومعاملتهم كما يعامل خصومه في فرض رسوم جمركية عالية على بضائعهم. هذه الخطوة الأميركية تقدّم خدمةً كبرى للصين ومناصريها (مثل روسيا) في إقناع العالم بالتحوّل إلى نظام دولي متعدّد الأقطاب، بمن فيهم حلفاء واشنطن مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، على أساس مصالح مُستجدِّة لها في التجارة البينية عوضاً عن التجارة الواسعة مع الولايات المتحدة، وكذلك على أساس تذمّرهم المشترك من قرارات الرئيس ترامب.
ستكون الصين سعيدة بالإجراءات الأميركية أيضاً لأنها تدفع مبادرة الحزام والطريق قدماً، فعندما فرغت الصين من إنجاز خطوات تنموية هائلة قبل نحو عشر سنوات، التفتت إلى تحويل قدراتها الاقتصادية لنفوذ سياسي عالمي، فابتكرت مبادرة الحزام والطريق التي تبدو كما لو أنها مشروع لتعزيز البنى التحتية لتجارتها الدولية وحسب، بينما هي تنطوي أيضاً على تأسيس وتعزيز النفوذ السياسي الصيني في الدول التي تعبرها مشروعاتها. الولايات المتحدة تنبّهت لهذه المسألة، وسعت إلى مواجهة المشروعات الصينية، تارة بالتحذير من عواقبها الأمنية والاقتصادية على الدول التي تبرم اتفاقيات مع الصين، وأخرى بتقديم أفكار ومشاريع بديلة لإفشالها، مثل طرح التعاون الأميركي مع أفريقيا بديلاً لتعاون القارة مع الصين، كذلك مشروع الممر التجاري من الهند إلى أوروبا عبر منطقة الخليج العربي. أمّا اليوم، فإن إجراءات ترامب تعزّز شرعية ووجاهة المشروع الصيني في إقامة بدائل تجارية عالمية لحماية الاقتصادات العالمية من مزاجية الولايات المتحدة وخطواتها الأحادية، وتمنح الصين حجّةً جديدةً لتتمسّك بمبادرة الحزام والطريق، وتشرح للعالم ضرورتها.
يتعلّق السبب الرابع بتحقيق فوائد اقتصادية مباشرة، إذ ربّما تفضي إجراءات ترامب الجمركية إلى نتائج مالية واقتصادية وشيكة، مثل الركود أو تباطؤ النمو العالمي، ما يدفع أسعار النفط إلى الانخفاض بسبب تراجع الطلب. في تراجع الأسعار خدمة للاقتصاد الصيني الذي يُعدّ ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ففي عام 2023 استهلكت الصين نحو 16.4 مليون برميل يومياً، استوردت منها نحو 11.3 مليون برميل. كذلك قد تكون ثمّة تداعيات تتعلّق بالإضرار بمكانة الدولار العالمية عبر تراجع الثقة به عملةً رئيسةً تجري بها نحو 88% من معاملات أسواق الصرف العالمية، وقد كانت الصين من بين أبرز المتحدّثين عن التخلّص من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، ورفعت اعتمادها على اليوان الصيني في تجارتها العالمية من 1% فقط في عام 2010، إلى أكثر من 52% في العام الماضي 2024.
عندما تعزل الولايات المتحدة نفسها عن العالم، تمنح الصين مبرّراً للتقدّم قائداً عالمياً بديلاً يتوفّر على شرعية الإنجاز التنموي، ويمكنه أن يقدّم النصائح لدول أخرى
يتعلّق السبب الخامس ببناء لغة مشتركة مع العالم، ذلك أن الصين تبشّر منذ سنوات بما تسمّيه "بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية"، عبر توزيع ثمار التنمية على جميع الشعوب، فضلاً عن قيادة "الجنوب النامي" نحو الازدهار والتطوّر. اليوم، عندما تتصرّف الولايات المتحدة كما لو أنها تعزل نفسها عن العالم، ليس من خلال فرض رسوم جمركية فقط على معظم الدول، بل كذلك عبر الانسحاب من منظّمات دولية كانت هي من بين أبرز مؤسّسيها وواضعي سياساتها، بذريعة أنها لا تتوافق والمصالح الاقتصادية الأميركية، فإنها من طرف خفي تمنح الصين مبرّراً للتقدّم باعتبارها قائداً عالمياً بديلاً يتوفّر على شرعية الإنجاز التنموي تجاه شعبه واقتصاد بلاده، ويمكنه أن يقدّم النصائح ويقود الخطط التنموية لدول العالم الأخرى، حيثما تتراجع الولايات المتحدة، تتقدم الصين.
وهكذا، ربّما لا يُعبّر رد الصين على فرض رسوم جمركية أميركية بفرض رسوم جمركية صينية عن غضب إزاء كرامتها الوطنية، كما تقول في تصريحاتها الرسمية، بقدر ما يُعبّر عن تشجيعها لترامب وإدارته على المضي في هذه الإجراءات، وعدم التراجع عنها. لقد بنَت الصين خططها التنموية منذ نحو نصف قرن على مبدأ البراغماتية وتدوير الزوايا، وليس من المعتاد أن تتحدّث عن الحدّية والتصلب في سياستها الدولية كما تفعل اليوم.