العنصرية المعرفية وأسطورة الشرق العاجز

30 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:43 (توقيت القدس)

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

في لحظة بدت كأنّها صدى بعيد لمدرسة كاملة من الخطاب الكولونيالي، خرج المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، توم برّاك، ليصرّح إن الشرق الأوسط لا يتشكّل من دول بالمعنى الحقيقي، وأن شعوبه ليست سوى عشائر وقرى ورثها الأوروبيون عن العثمانيين. عبارة قصيرة تخفي وراء بساطتها تاريخاً طويلاً من الاستعلاء الذي رسّخته الذاكرة الاستعمارية، إذ يُصوَّر الشرق أرضاً لم تعرف الدولة، وكأنّ حضارات وادي الرافدين والفراعنة والعباسيين لم تترك آثارها في قلب التاريخ، وكأنّ الفضاء الذي أنجب أول القوانين والمدن لا يملك سوى لغة القبيلة. ما قيل ليس توصيفاً عابراً، بقدر ما هو إعادة بعث لخطاب يمنح الغرب حقّ الوصاية، ويصوّر المنطقة بوصفها عجزاً دائماً يحتاج إلى إنقاذ. المفارقة أن الغرب ينكر على هذه الأرض ما كان هو نفسه عاجزاً عن تحقيقه قروناً، فالتجارب السياسية التي سبقت أوروبا لم تُسجل أولاً في ضفاف السين أو التايمز، إنما في بابل حيث صاغ حمورابي أول مدوّنة قانونية، وفي وادي النيل حيث نشأت سلطة مركزية عابرة للأجيال، وفي دمشق وبغداد حيث حكم الأمويون والعباسيون إمبراطوريات مترامية الأطراف، أقامت جهازاً بيروقراطياً متماسكاً، حتى العثمانيون الذين وُصِفوا كثيراً بأنهم قوة راكدة، ابتكروا نظاماً إدارياً للملل مكّنهم من إدارة فسيفساء دينية وعرقية على مدى قرون، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في إقطاعيات متناحرة، لم تعرف شكل الدولة الحديثة إلا بعد معاهدة وستفاليا عام 1648. لكن ما يقدّمه الخطاب الغربي بوصفه "طبيعة الشرق الأوسط" ليس إلا بناءً استعمارياً، جرت هندسته ببرود بعد انهيار السلطنة العثمانية. فرنسا وبريطانيا أعادتا رسم الخرائط في مقاس مصالحهما، وأدخلتا أنظمة محاصصة في العراق ولبنان جعلت الانتماء الطائفي قاعدة للسياسة. الهشاشة البنيوية الراهنة ليست جوهراً اجتماعياً ثابتاً، إنها نتاج سياسة استعمارية سعت إلى إبقاء الدولة الوطنية في حالة قصور دائم. ومع مرور الزمن، تحوّلت تلك الشروخ المصطنعة وقائعَ دامية، وغُذّيت الصراعات الداخلية لتبرير الهيمنة الخارجية. وهكذا، ما صُنع عمداً في لحظة تاريخية صار يُقدَّم لاحقاً قدراً محتوماً.
ينتمي هذا الخطاب الذي يحوّل شعوب المنطقة مجرّد "قبائل" إلى ما يسمّيه باحثو ما بعد الكولونيالية بـ"العنصرية المعرفية". عنصرية لا تعلن نفسها بوضوح، وتعمل على نزع الشرعية عن أي سردية بديلة، وإقصاء التجارب السياسية والثقافية للشعوب، وجعل التجربة الأوروبية معياراً وحيداً لقياس النضج السياسي. إنها عنصرية بالسلاح كما بالمعرفة أيضاً: تُفرغ الأرض من تاريخها، وتُقدَّم مساحة فارغة بانتظار "إدارة غربية". وحين يُكرَّس هذا المنطق، يصبح الشرق الأوسط دائماً في موقع المتهم، عاجزاً عن تعريف نفسه إلا من خلال مرآة الآخر. في السياق الراهن، لا يمكن فصل هذه اللغة عن لحظة سياسية محتدمة. القول إن المنطقة "ليست دولاً" يخدم هدفَين متداخلَين. الأول، تبرير الفوضى باعتبارها قدراً تاريخياً لا حصيلة مباشرة للتدخّلات العسكرية. والثاني، صرف الأنظار عن مسؤولية الغرب في إعادة إنتاج العنف، حين يُقدَّم الشرق فضاءً فوضوياً أبدياً، يصبح العنف ضدّه مفهوماً، ومشروعاً. في هذه اللحظة، تتحوّل الكلمة الدبلوماسية أداة دعائية، وتعيد ترسيخ صورة "الشرق العاجز"، ليظلّ الغرب في موقع الوصي الحضاري الذي يمنح نفسه الحقّ في التدخّل.
لكن القراءة التاريخانية تكشف التناقض في عمقه. المنطقة التي أهدت العالم أول قانون مكتوب، وأقامت أقدم إدارة مركزية، وابتكرت أوسع صيغ للتعايش المؤسّسي، لا يمكن أن تُختزل في صورة "العشيرة". وما يُسمّى "فشل الشرق"، ليس إلا انعكاساً لفشل الغرب في مواجهة إرثه الاستعماري، من الحملات الصليبية إلى الانتداب، ومن خرائط سايكس - بيكو إلى حروب العصر الحديث. الغرب، في لحظاته الحرجة، يحتاج إلى أسطورة "الشرق العاجز" لتبرير سلطته، فيما يظلّ الواقع أكثر تعقيداً، وتاريخ المنطقة أكثر غنى ممّا يسمح به هذا الاختزال. فإن الردّ هنا ليس مجرّد تمرين في الذاكرة، بقدر ما يجب أن يكون فعلاً أخلاقياً لكسر استعلاءٍ يتجدّد بأقنعة شتى. والردّ الحقّ يكون بإعلاء منطق الدولة التي تحتضن مواطنيها جميعاً، لا منطق الطوائف ولا محاصصة الكراهية. هناك فقط ينكسر الخطاب الاستشراقي، وتستعيد المنطقة حقّها في أن تُعرّف نفسها بعيداً عن وصاية الآخر.

سمر يزبك
سمر يزبك
سمر يزبك
كاتبة وروائية وإعلامية سورية
سمر يزبك