سورية بين الأمل وخيبته

13 مارس 2025
+ الخط -

لا يكتفي البشر بما بين أيديهم، فطبيعتهم مختلفة عن بقيّة الكائنات الحيّة. لذلك تراهم يتطوّرون باستمرار، والتطوّر يبدأ عندهم بفكرة أو بخيال أو بحلم، ومن الأفكار جاءت العلوم، بينما ولّد الخيالُ الآدابَ والفنون، وكان نصيب الأحلام أن تخلق الثورات والحروب. يسعى الإنسان، على الدوام، إلى ما لا يمتلكه، فتراه يجوب البحار ويشقّ الفضاء ويغوص في مكنونات المادّة والنفس البشرية. يخرق الإنسان الحدود ويوسّع دوائر معارفه، ثمّ يضبطها في حيّز ليستوعبها، فاكتشف القوانين ليضبط فيها عقله المتمرّد قبل الأشياء والعوالم، ولكي يعيد دمج ذاته بالطبيعة اخترع الأديان، ثمّ اهتدى إلى وجود الخالق. ولمّا عجز عن ربط المحسوسات بالغيبيات اخترع الفلسفة، فبدأ حرفة التعميم من الجزئيات إلى الكليّات.

كانت ثورتنا السورية حلماً بمستقبل أفضل، مرّ في نومنا الذي امتدّ منذ 8 مارس/ آذار 1963، فأيقظ فينا حماسةً لا تخبو، وعزيمةً لا تلين، فصمدنا بوجه أعتى نظام بطشٍ عرفته البلاد في طول تاريخها، وانتصرنا رغم وقوف كلّ جناة الأرض في طريقنا، فكان 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 يوم الحسم مع الاستبداد بلا رجعة، وكان التحرير بداية القيامة السورية الجديدة. ولأننا دفعنا الغالي والنفيس للوصول إلى هذا اليوم، نحن نطمح إلى الكثير والأفضل. من هنا تأتي نقاشاتنا المستمرّة حول مسارات بناء سورية الجديدة، ومن هنا يأتي الثناء على كلّ إيجابية، والنقد لكل سلبية أو خطأ أو انحراف. جاء انهيار النظام نتيجة حتمية لعوامل النخر الداخلي التي صنعها بذاته، وتضافرت معها ظروفٌ إقليمية ودولية عديدة، فكانت الفصائل العسكرية القوى الوحيدة القادرة على ملء الفراغ الأمني والعسكري، وهذا أورث شرعية ثورية لا تكفي بذاتها لتغطية الفراغ الدستوري والسياسي والإداري في البلاد. حاولت السلطة الجديدة التأسيس لشرعيةٍ مقبولةٍ شعبياً ودولياً، فحكمتها توازناتُ القوى الداخلية بدايةً، الأمر الذي تمثّل بمؤتمر إعلان النصر، الذي ضمّ غالبية الفصائل العسكرية.

فرحنا بالتحرير الذي حفظ الدماء والممتلكات، تفاعلنا مع مؤتمر إعلان النصر الذي نصّبت فيه الفصائل العسكرية رئيساً خلال المرحلة الانتقالية، تساجلنا كثيراً بشأن مؤتمر الحوار الوطني، فكان فريقٌ منا يراه كافياً وقد حقّق النتائج المرجوّة منه بالتأسيس لمشروعية شعبية تغطّي ضرورات المرحلة، وتؤسّس لإعلانٍ دستوري وحكومة انتقالية ومجلس تشريعي مؤقّت. بينما رأى فريقٌ آخر أنّه قزّم من مؤتمر سوري كبير تأسيسي ثانٍ ليأتي على شكل ورشة عمل مشابهة لما تقوم به أيّ منظمة مجتمع مدني. رأي الفريق الأول أنّ الظروف الإقليمية والدولية استدعت الاستعجال، بينما رأى الثاني أنّ الظروف ذاتها تقتضي تعميق الحوار البيني السوري للوصول إلى عقد اجتماعي جديد، وعهد وطني دائم. وفي كل الأحوال، لا يمكن لنا معرفة الصواب من الخطأ في كلا الرأيين، والتاريخ سيحكم علينا وعلى ما قمنا به.

التحرير في سورية كان سلساً، ولم تقع فيه انتهاكاتٌ، أو تجاوزاتٌ بحقّ العلويين

قبل أيّامٍ، ناقشنا الإعلان الدستوري واللجنة المكلّفة بكتابة مسوّدته، واختلفنا على كيفية تشكيل اللجنة، وعلى صلاحياتها وطبيعة مُخرجات عملها، وعلى موضوع الإعلان الدستوري وجوهر موادّه والجهة المختصّة بإصداره. ليس هذا الاختلاف ترفاً ولا تزيّداً، بل هو وضع صحّي، يدلّ على حراك مجتمعي قويّ يتابع الانخراط في الشأن العام. لقد ولّى الزمن الذي كان الشعب فيه مقصىً عن المشاركة في رسم مسارات حياته، وجاء اليوم الذي سنشارك فيه بصناعة حاضرنا ومستقبلنا من دون خوفٍ أو تردّد. بمرور الأعوام الأربعة عشر على اندلاع الثورة السورية، باتت البلاد حُطاماً على حطام، فلا بنية تحتية ولا اقتصاد ولا موارد مالية ولا قوى بشرية عاملة، تُضاف إلى ذلك عقوبات اقتصادية خانقة. أدّت الحرب التي شنّها النظام على الشعب إلى تذرّر العقد الاجتماعي وتفتت الهُويَّة الوطنية، وهذا عزّز الهُويَّات الفرعية، التي لم تكن دائماً على توافق مع الهُويَّة الوطنية السورية.

نناقش اليوم ما يحصل في الساحل السوري، وانقسمنا هنا أيضاً بين مُنكرٍ وجود مشكلةٍ من أساسها حاصراً الأمر بفلولٍ مجرمة، لا تريد القبول بانتصار الثورة، وتصرّ على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، ومدّعٍ وجود حرب إبادة جماعية على الأقلّية العلوية من الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية. صوت الحقيقة غائبٌ عن المشهد، فصوت الرصاص والشعبوية والخوف والتخوين أعلى من صوت العقل.

لا يماري أحدٌ بأنّ التحرير كان سلساً، ولم تقع فيه انتهاكاتٌ، أو تجاوزاتٌ بحقّ العلويين، فقد كانت أرتال السيارات المحمّلة بضباط الجيش والمخابرات وعائلاتهم تمرّ أمام قوات ردع العدوان متّجهة من دمشق وحمص وحماة وحلب إلى الساحل، من دون أن تتعرّض لها الأخيرة بالأذى. كان خطاب رئيس البلاد الجديد واضحاً أننا سنذهب إلى محاسبة الجناة من دون المساس بالأبرياء، لكنّ المتضرّرين من هذا الأمر كثيرٌ عديدهم، فكل من تلوّثت يداه طوال 14 عاماً سيكون عرضة للملاحقة، والحلّ الأمثل في رأيه استمرار الفوضى والحرب، إن لم يكن إعادة الحال إلى ما كان عليه وإسقاط العهد الجديد. المتورّطون في الجرائم بالآلاف، بل بعشرات الآلاف، فكيف لنا أن نصدّق ركونهم وقبولهم بالهزيمة؟

جاء انهيار النظام في سورية نتيجة حتمية لعوامل النخر الداخلي التي صنعها بذاته، وتضافرت معها ظروفٌ إقليمية ودولية

لكنّ النفوس محتقنة، وجاءت بعض ممارسات الإدارة الجديدة مخيّبة للآمال بالنسبة لأهالي الضحايا، فإجراء التسوية مع عدنان مخلوف وأمثاله، وإبقائهم طلقاء، شكّل صدمة كبيرة لدى الناس، وولّد شعوراً بأنّ المجرمين سيفلتون من العقاب، وهذا أدّى إلى فورة من الغضب تجلّت بالحشود الشعبية الكبيرة التي تشكلت عفوياً للتصدّي لهجمات الفلول في الساحل.

تعامل الرئيس بمسؤولية كبيرة مع هذه التطوّرات، فخطب بالشعب مرّتَين خلال 48 ساعة، وأصدر الأوامر باتباع القانون وتعليمات القادة، وعدم ارتكاب الجرائم، ووعد بمحاسبة المنتهكين. وشكّل لجنةً لتقصّي الحقائق وأخرى للسلم الأهلي، وهذه استجابة سريعة ومسؤولة، على عكس ما كان يصدُر من رأس النظام البائد، الذي تأخّر أسبوعين، قبل أن يخطب في مجلس الشعب ضاحكاً ساخراً من دماء السوريين. يبقى أن نرى وقفاً لمشاركة الفصائل غير المنضبطة، وإحالة العناصر الذين ارتكبوا التجاوزات إلى القضاء، والسماح للهلال الأحمر والدفاع المدني والإسعاف بالدخول إلى الساحل لمساعدة الناس المنكوبين هناك. يجب أن يسمح للصحافة والإعلام بالدخول أيضاً لإظهار الحقائق كما هي، فقد ولّى زمن التعتيم والتغطية على التجاوزات والجرائم. سورية اليوم في مفترق طرق، وأهلها يراوحون بين الأمل وخيبته، وعسى ينتصر الأول وتولّي الثانية بغير رجعة.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود