سورية بين الثورة والدولة
بعد 54 يوماً من سقوط نظام بشّار الأسد، وجّه أحمد الشرع، خطاباً إلى السوريين للمرّة الأولى، لا بوصفه قائداً لإدارة العمليات العسكرية، بل رئيساً انتقالياً أعلنه "مؤتمر انتصار الثورة". وبعد إلحاح على ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة، حسم "أهلُ الحلّ والعقد" الأمرَ لصالح الشرعية الثورية، لا الشرعية الدستورية، في مؤتمر خلا من الشفافية، حين كان اجتماعاً مغلقاً لم يُعلَن عنه مسبقاً، ولم تُعلَن الفصائل المشاركة فيه (هل شاركت قوات سوريا الديمقراطية والفصائل الدرزية وفيلق أحمد العودة؟)، ولا الآليات التي عُيّن الشرع بموجبها رئيساً، ما يترُك حالة من عدم اليقين بشأن ما إذا كانت هناك وحدة صفّ خلف مخرجات الاجتماع.
عُلّق العمل بدستور 2012، الذي يقطع الطريق على نائب الرئيس المخلوع، فيصل المقداد، لتولي الرئاسة في حال شغور المنصب، بحسب نصوص الدستور المُعلَّق، ولا قيمة لمجلس الشعب بعد تعطيل الدستور. وتبدو باقي مخرجات المؤتمر المذكور، من حلٍّ للجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية، تحصيل حاصل بعد سقوط النظام، والجديد تكريسه واقعاً بإعلان رسمّي، والسيطرة على أصولها، فلا الجيش قائم ولا الأجهزة الأمنية، ولا يؤمن معظم المنتمين لحزب البعث من السوريين به ولا بأيديولوجيته، ووجدوا أنفسهم فيه بحكم الضرورة أو الإجبار، و"الجبهة" شكلية، وأحزابها أيضاً. الهدم سهل، لكنّ العبرة في إعادة البناء، ولا نعلم الفرق بعدُ بين بناء الجيش على أسس وطنية وإعادة تجميع الفصائل العسكرية الموالية المنحلّة في فصيل واحد كبير يسمّى جيشاً (؟)، في ظلّ وجود فصائلَ رفضت التنازل عن سلاحها في الشمال الشرقي والجنوب. وعبر "حلّ جميع الأجسام الثورية"، تُغلَق جميع القنوات الأخرى التي قد تزاحم الشرع تمثيلاً أمام المجتمع الدولي والمنظّمات الأممية، لعلّ أولاها هيئة التفاوض السورية. جلّ مخرجات "مؤتمر انتصار الثورة" كان يُنتظَر أن يُعلنها مؤتمر وطني، أصبح مُجرّد مؤتمر للحوار.
عُيِّن الشرع رئيساً بنهج مركزي سلطوي، يتناقض مع دعوة الشرع السوريات والسوريين إلى المشاركة في البناء، أو يؤجّل المشاركة إلى أجل غير مسمّى، ويثير قلقاً بشأن الحرّيات العامّة، والشخصية، ولا ضمانات حقيقية لتقاسم السلطة، ولتعدّدية سياسية تطاول المكوّنات السورية كلّها. وفي خمس دقائق مصوّرة، زاحمت مقولاتُ الأخلاق ومثيراتُ العواطف مفاهيمَ السياسة وتفاصيلها، وحدّد الشرع أولوياته للمرحلة المقبلة، فعبر "ملء فراغ السلطة" يضفي طابعاً رسمياً على إدارته البلاد، باسطاً سلطته على كامل مساحتها تحت عنوانَي "توحيد سورية" و"حفظ السلم الأهلي"، ويعزّز قدرته في توقيع شراكات أمنية وعسكرية، واستثمارات اقتصادية، مع الخارج، في سبيل "بنية اقتصادية تنموية"، فتستعيد سورية "مكانتها الدولية والإقليمية". لكنّه يمضي في مسار يلفّه الغموض: مدّة المرحلة الانتقالية، موعد مؤتمر الحوار، شكل الدستور ومن يتولّى كتابته، الآليات والمعايير التي سيشكّل الشرع بموجبها المجلس التشريعي الانتقالي (هل من مهامه مراقبة عمل الرئيس؟)، آليات العدالة الانتقالية... وباستثناء الإعلان لاحقاً النيّةَ في تشكيل حكومة انتقالية من تكنوقراط من مختلف المكوّنات، لا شيء أكثر وضوحاً سوى تكريس السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بيد الرئيس.
الثورة حالة فوق دستورية، تستمد شرعيتها من ذاتها، ويقتضي مفهوم الشرعية الثورية أن تصبح أحكام القضاء والمواد الدستورية، ما قبل انتصار الثورة، غير ملزمة، ما دامت تتناقض مع شرعية الثورة، لكنّها شرعية مؤقّتة، تُستمَدُّ من إجماع (أو شبه إجماع) شعبي، لا من أنها سلطات أمر واقع، والإصرار عليها يهدّد انتقالاً ديمقراطياً، ولم نسمع كلمة ديمقراطية بين مفردات الشرع وأعضاء حكومته. والغريب أن تَغيب مبدأً أساساً بين "مبادئ" في بيان مثقّفين وازنين، رأوا أن من شأنها أن "تحصّن سورية الجديدة".
لا تنتصر الثورة بمجرّد استبدال رئيس بآخر، بل بامتلاك السوريين دولةَ مواطنةٍ، هدفاً نادى به الشارع المنتفض على نظام الأسد، ولم تنادِ به معظم الفصائل المسلّحة التي تُصرّ اليوم على عقلية الثورة، بينما يريد السوريون استقراراً في دولة ديمقراطية، لا ثورةً دائمة.