سورية على صفيح ساخن... الصوت أم السوط؟
تشكّل دورةُ الأخبار السورية المتواترة أكثر من مُجرَّد مُخرَجات فراغ سياسي خلّفه سقوط نظام الأسد المفاجئ، لأنها ببساطة تطرح إشارات مبدئية عن الكامن في ما وراء الأفق، لا تكتمل ملامحه برؤيته الأولى في خضمّ فوضى عارمة، سرعان ما ستفسح المجال أمام السوريين لتلمّس القاع العميق الذي يتخبّطون فيه، والذي قد يشكّل بيئةً خصبةً لاندلاع حرب أهلية بإصدار جديد أو ربّما لتقسيم البلاد وفق خطوط عرقية وطائفية ممنهجة، إن لم يتمّ النهوض منه سريعاً.
ومنطق هذه الرؤية، على سوداويتها، أنّ سورية عاشت في دائرة شرسة عمل فيها نظام الأسد لحرمان الناس من المشاركة في القرار الوطني ولمس ثماره، فخرجت بعد عقود من حكم الفرد المطلق بقايا دولة فقيرةٍ سياسياً ومنهارة اجتماعياً، وعليه فإنّ سقوط المركز الصلب لا بدّ سيعيد إنتاج أزمات الأطراف بأشكال أكثر فجاجة وقسوة، وقد يفتح باباً موارباً للسيناريو الأسوأ: سورية تسير نحو مصيرٍ شبيه بليبيا والعراق، خاصّة أنّ إيقاع الأحداث السريع، بينما تُهشّم تماثيل الأسدَين (الأب والابن)، لن يقتلع من الذاكرة بسهولة مشاهد إسقاط العراقيين، وتالياً الليبيين، تماثيل طاغيتيهما، وكأنه سيناريو مكرور إلى حدّ التطابق، بينما تتزايد تساؤلات متوازية وملحّة: هل ستتمكّن سورية من تجاوز إرث الأسد المجرم بخفّةٍ، أم أنّ الضبابية المُربكة ستبقى سمة المرحلة المقبلة؟... الجواب يقتضي مساءلةَ مرحلة "الأسد أو نحرق البلد" بكاملها، والتي ذرّت البلاد إلى كانتونات طائفية متحاربة اختلّ معها ميزان السوريين لصالح الأعداء، بالتالي تجب إدارة الرؤى بشكل حذر، وإرساء توقّعات أكثر منطقية وقابلية للتحقيق، مع تصاعد الضغط الشعبي، الذي يحشد التأييد ما أمكن، بهدف ترجمته مكاسبَ سياسيةً راسخةً في بيئة معقّدة وسريعة التغيّرات.
لنتّفق بداية أنّ البلد خرج للتوّ من حكم الأسد الاستعماري الشمولي، الذي لا شبيه له، لذا قد يقول قائلٌ إنه أورث شعبه أسوأ النزعات المصلحية والفئوية، ناهيك بدمامل الأحقاد وسكاكين الجروح الغائرة التي يُتخوّف أن تتحوّل غيلاناً جائعةً تنهش الجسد السوري، ما سيجعل السوريين أنفسهم فاقدي البوصلة والخيارات، ولا يملكون شيئاً أصيلاً يدافعون عنه. لكن ما يدعو للتفاؤل حقيقةً، أنّ السوريين لم يتباكوا كثيراً على ما جرى محاولين الرجوع إلى ماضٍ مفتقد تظلّله نوستالجيا باهتة، بل إنّ صوتهم بات يرتفع عالياً ما إن يستشعروا خطراً يطيح دولة الحرّيات والديمقراطية المُشتهاة. خطر يُنتظر أن يبلغ مداه المُجدي وتتّضح مشكلاته وتتبلور مسائله، وهذا ما يُعوَّل عليه للنجاة؛ الإيمان بأنّ المعركة الحقيقية ليست مع نظام الأسد فقط، بل مع كلّ من تُسوِّل له نفسه فرض أجندات داخلية أو خارجية مسمومة تُفرّغ الوطن من معناه.
يجب أن تكون الأولوية اليوم لتكريم التراجيديا السورية، التي تشاركها السوريون بمشهديات رهيبة ودامية، وعبر رباط المواطنة، بعيداً عن بارانويا الإقصاء والتخوين
أثبت حكم الأسد القمعي أنّ الطغيان الراسخ لا ينكسر إلا بقوة طرد مركزية هائلة، وهي بطبيعة الحال ثورة السوريين التي اتّخذت شكلَ تراجيديا دمويةٍ هزّت العالم بأسره، وأنّ سقوطه ترافق مع أسئلةٍ ثقيلةٍ باعتباره طوفاناً سياسياً هادراً سينتقل تأثيره إلى المنطقة بأسرها، أمّا الجدير بوقفة متساءلة فهو الاعتقاد الغبي بأنّ خلع بشّار الأسد هو نهاية القصّة، بالتوازي مع الامتداد الخبيث لسيناريوهات تُكتَب بحنكة في خرائط المصالح الدولية، لذا لتُؤجَّل الأسطوانات المشروخة من قبيل: كيف نضمن أنّ العهد الجديد سيكون خيراً من سلفه؟، فهذه مغالطات غير منطقية تُستخدَم من أجل الجدال العقيم في مرحلةٍ بالغة الحساسية والحَرَج، من المفترض أن تنقل البلد إلى ضفّة الأمان، لذا تظهر ضرورة ملحّة لتأسيس جيش وطني وأجهزة أمنية احترافية مستقلّة تحرس مخاوف شريحةٍ كبيرة من السوريين تتوجّس من تعزيز الفريق المُسيطر مواقعَه وفرض سطوته، فلا يُطلِق عمليةً انتخابيةً ما لم يضمن فوزه الساحق مسبقاً.
في السياق، تبدو المخارج السياسية الممكنة لتفريغ الاحتقان العام بين السوريين من مهمّات حكومة تصريف الأعمال المؤقّتة، التي تملك فرصةً تاريخيةً لا تتكرّر لتبنّي مقاربات سياسية قائمة على الحوار وتعزيز الثقة، أمّا التحدّي الأبرز أمامها فعنوانه الرئيس ألا تكرّر أخطاء النظام البائد، الذي سجن السوريين في كانتونات الفقر والخوف والعزلة، والأكثر أهميةً قدرتها على امتصاص الغضب الشعبي وتفهّمه، مثلما حصل بعد إعلان إجراء تعديلات على المناهج الدراسية، تضمّنت حذف نصوص علمية ورسوم تاريخية وإعادة صياغة عبارات، لتتراجع عنها الحكومة بعدما أثارت جدلاً واسعاً بين أوساط السوريين، الذين أكّدوا أنّ التعليم المبني على أيديولوجيات متطرّفة يؤدّي حكماً إلى إنتاج أجيال شاذّة متخمة بأفكارٍ عدوانية تهدّد الأمن الإقليمي والدولي.
على أيّ حال، يمكن التشكيك في جدوى الفرحة الكبيرة بزوال نظام الأسد، التي سرعان ما ستنقلب حنقاً على سلطة الأمر الواقع إذا ما تحولت حكومةً مضادّةً، مقدّسةً ولا يجوز المساس بها، بينما يجب أن تكون الأولوية اليوم لتكريم التراجيديا السورية، التي تشاركها السوريون بمشهديات رهيبة ودامية، وعبر رباط المواطنة، بعيداً عن بارانويا الإقصاء والتخوين، التي تجعل من كلّ صوتٍ معارض متآمراً محتملاً. والحصيلة مجدّداً مجتمع خائف مهووس بنظرية المؤامرة، محكوم بقوة السوط وعقلية الجلّاد، أمّا الانزلاق إلى الأحادية والاهتمام بالصغائر والشكليات فسيدخلان البلاد، الهشّة أساساً، برازخ عدمية مظلمة لا نهاية لها.
يمكن التشكيك في جدوى الفرحة بزوال نظام الأسد، التي ستنقلب حنقاً على سلطة الأمر الواقع إن تحوّلت حكومة مضادّة مقدّسة
ما يمكن بناؤه على ما تقدَّم أنّ هيئة تحرير الشام هي الأكثر حظّاً في نيل المكاسب الكُبرى، لكن ثمّة عقبات في مواجهتها، أكثرها أهميةً وجودها في لوائح الإرهاب، التي ستكون عائقاً كبيراً في ملفّات رفع العقوبات وإعادة الإعمار، حتى وإن أظهرت بعض الاعتدال الشكلي والاندماج، لكنّها تبقى أسيرة تاريخها، ما يؤكّده وصول وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك مرتدية سترةً واقيةً من الرصاص وبطائرة عسكرية، إضافة إلى تحدّياتِ كسْبها ثقة السوريين بأطيافهم كافّة، في ظلّ حكومةٍ بلون واحد، هناك اختبار القدرة على كسر دائرة العنف ومنع إعادة إنتاج الهُويَّات الضيّقة القائمة على المظلوميات، وهناك بالطبع الملفّ الاقتصادي المنهار. أمّا في ما يخصّ الوضع الأمني المشتعل، فتتزايد المخاوف من استمرار العمليات الانتقامية ضرباً من جنون التطرّف لبعض الفصائل، فحلّ الجيش والتعامل العشوائي مع المؤسّسات الأمنية سيؤدّيان إلى دمار داخلي يصل إلى حدّ التغول على ما تدلِّل حوادث الصراع السوري بما يزيد على الكفاية. لذا يبدو التشكّك المنهجي أقرب إلى الصواب، بينما تبرز مؤشّرات مقلقة، فعلى الرغم من السجل الجيّد للهيئة في ضبط الأمن في إدلب فإنّ تكرار التجربة في كامل الجغرافية السورية المتنوّعة سيكون تحدّياً كبيراً، وسط الضغط من قبل مجموعات عنفية راديكالية أقرب إلى ذهنية إقامة الخلافة الإسلامية المتشدّدة، التي لا تزدهر بوجودها ثقافة أو تقوم حياة، وهذا قد يضرم الميدان بين هذه الفصائل ويفتح باب الانقلابات الداخلية فيها، بينما لا تجمعها أعرافٌ عسكرية متناغمة أو لغةٌ سياسية مشتركة، ممّا قد يجرّ البلاد إلى سيناريو تقسيم المُفتَّت وتجزيء المُجزَّأ، وهذا ألعن.
نافل القول، سورية بعد الأسد تواجه مجموعةً ضخمةً من التحدّيات المترابطة والمُعقَّدة، أمّا قطف ثمار السقوط فيتوقّف على قدرة الشعب السوري وقيادته المستقبلية في ربط تحالفات صحيحة مبنية على مبادئَ وطنيةٍ جامعةٍ بعيداً من ديناميكيات التجذّر والتطرّف والتطييف، لا على فراغٍ أيديولوجي يملأه النموذج "السلفي الجهادي"، وبالقوة.