صندوق هند رجب... الأساس القانوني لملاحقة الجنود الإسرائيليين أمام المحاكم الوطنية

03 مارس 2025

أطفال قلسطينيون يتأملون مبانٍ دمرها قصف إسرائيلي في بيت لاهيا شمال غزّة (21/2/2025 Getty)

+ الخط -

تُعد محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين قضيّةً حيويةً تتعلّق بتحقيق العدالة الدولية ومساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ومكافحة سياسة الإفلات من العقاب. ومع تزايد ارتكاب الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، تواصل مؤسّسة هند رجب [1] ملاحقة جنود الاحتلال أمام المحاكم الوطنية، ويأتي ذلك في ظلّ عجز الأمم المتحدة عن اتخاذ الإجراءات اللازمة والحاسمة لوقف الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة، وتعثّر مسار محكمة العدل الدولية في المدى المنظور، والتحدّيات التي تواجه محكمة الجنايات الدولية، خاصّة تعقيد التعاون الدولي والضغوطات السياسية التي تواجهها المحكمة، بالإضافة إلى استحالة محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحاكم الإسرائيلية وفقاً لمبدأ الشخصية [2]. ومن ذلك فقد برزت أهمية تفعيل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، الذي يتيح للدول محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية أمام محاكمها الوطنية بغضّ النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية مرتكبيها.
تسعى هذه المطالعة إلى استعراض الإطار القانوني لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، وتوضيح دور المحاكم الوطنية في التصدّي للجرائم التي يقوم بها الاحتلال الاسرائيلي، مع التركيز على التحدّيات والفرص المتاحة لتطبيق العدالة على الجرائم المرتكبة ضدّ الشعب الفلسطيني.
الاختصاص الجنائي العالمي: أداة العدالة العابرة للحدود
يمثّل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي إحدى الآليات الفعّالة في تعزيز التعاون الجنائي الدولي، فيمنح الحقّ، بل وأحياناً إلزام المحاكم الوطنية بملاحقة ومحاكمة مرتكبي جرائم معينة، بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة أو جنسية مرتكبيها أو ضحاياها، كما يعد تجسيدًا للمسؤولية الدولية المشتركة في محاربة الإفلات من العقاب، مما يجعله عنصرًا حيويًا في منظومة العدالة الدولية.
ويعرف الاختصاص الجنائي العالمي بأنه: " نظام يعطي المحاكم الجنائية لجميع الدول حق ممارسة ولايتها القضائية في محاكمة المتهم بارتكاب جريمة دولية بغض النظر عن جنسيته أو جنسية الضحايا أو مكان ارتكابها"[3]. ويعكس هذا التعريف الطبيعة الاستثنائية للمبدأ، كونه يتجاوز القيود التقليدية للاختصاص، بهدف تعزيز العدالة الدولية ومحاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة دون الاعتداد بالحدود أو الجنسية. كما يرتكز هذا المبدأ على فكرتين رئيسيتين؛ خطورة الجرائم الدولية، فهناك جرائم تنتهك مصالح المجتمع الدولي بأسره، مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، ما يجعل ملاحقتها واجباً دولياً مشتركاً؛ ومنع الملاذات الآمنة، إذ يُحرّم المبدأ توفير أيّ حماية أو ملاذ آمن لمن يرتكب هذه الجرائم.

رغم إنشاء أجهزة ذات طابع جنائي، مثل المحاكم الجنائية الخاصة، إلا أن فعاليتها محدودةٌ نظراً لمجال اختصاصها المقيَّد نوعياً ومكانياً وزمنياً

وعند تبنّي الدولة مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، فإنها تؤكّد قبولها دور النيابة عن المجتمع الدولي في مواجهة انتهاكات القانون الدولي الإنساني. ويرتكز هذا الدور على أساسين؛ فلسفي يتمثل في تعزيز مصلحة الدولة والمجتمع الدولي من خلال توسيع نطاق ملاحقة الجرائم الدولية، بما يحمي المصالح الجماعية للبشرية. وأساس قانوني ينبع من الالتزامات الدولية المنصوص عليها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، بالإضافة إلى التشريعات الجنائية الوطنية التي تمنح القاضي الوطني الصلاحية المباشرة لتطبيق هذا المبدأ.
التطوّر التاريخي لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي
ظهر مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي بشكل واضح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فورد في نصوص بعض التشريعات الوطنية مثل القانون الأرجنتيني بشأن تسليم المجرمين لعام 1884، والقانون الإيطالي الخاص بالجنايات والجنح لعام 1889، كما شهدت بلجيكا في 1982 تطبيقاً لهذا المبدأ في قضية شارون بخصوص مذبحة صبرا وشاتيلا، ولكنّها تعرّضت لضغوط من الولايات المتحدة وإسرائيل[4]، كما نجد أن ألمانيا في المادة 1/ 2 من قانون العقوبات تمنح القضاء الألماني حق محاكمة المتهمين بجرائم خطيرة مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية حتى وإن ارتكبت خارج الأراضي الألمانية.
وقد طبّقت سبانيا مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في قضية بينوشيه، حيث أقرت المحكمة الإسبانية حقها في التحقيق بالجرائم المرتكبة في تشيلي، مؤكّدة أن القضاء الإسباني يمكنه النظر في الجرائم الدولية التي ترتكب خارج أراضيها، سواء كان مرتكبوها أو ضحاياها أجانب.
وفي القرن العشرين، شهد المبدأ دعماً إضافياً عبر الاتفاقيات الدولية، كاتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، إلى جانب إدراجه في التشريعات الوطنية للعديد من الدول الأوروبية، فقد نصّت قوانين تلك الدول على ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، إضافة إلى دعم هذا المبدأ من خلال نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي فُعّل في 2002 ويؤكّد أولوية تفعيل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي.
وفي عام 1999، دعا مجلس الأمن الدولي الدول إلى تعديل تشريعاتها الوطنية بما يضمن دمج مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في قوانينها، بهدف تمكينها من ملاحقة مرتكبي انتهاكات القانون الدولي الإنساني ومعاقبتهم، وذلك وفقًا لبيان رئاسة مجلس الأمن الصادر بتاريخ 12 فبراير 1999. كما أكّد الأمين العام للأمم المتحدة على أهمية هذا الإجراء في تقريره بشأن حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة الصادر في 8 سبتمبر 1999. استجابت العديد من الدول لهذه الدعوة، حيث قامت معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى جانب دول أخرى مثل سويسرا وكندا، بتعديل تشريعاتها الوطنية لتتوافق مع هذا الالتزام الدولي. ومع ذلك، أبدت بعض الدول تحفظات واضحة، أبرزها الولايات المتحدة وفرنسا، حيث أصرت هذه الدول على التمسّك بنظمها القانونية الوطنية في التعامل مع الجرائم الدولية. في المقابل، لم تُظهر الدول العربية استجابة شاملة وملموسة لدعوة مجلس الأمن الدولي عام 1999 بشأن دمج مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في تشريعاتها الوطنية.
إلزامية الاختصاص الجنائي العالمي في اتفاقات جنيف الأربع: تعزيز مكافحة الجرائم الدولية
نصّت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 بشكل صريح على إلزامية ممارسة الاختصاص العالمي من المحاكم الجنائية الوطنية في التعامل مع الانتهاكات الجسيمة التي تضمّنتها. وطرحت هذه الاتفاقات أحكاماً جديدة تهدف إلى تعزيز وتفعيل اختصاص قاض مكان تواجد المتهم، حتى في حالات ارتكاب جريمة حرب، بغضّ النظر عن جنسية الجاني أو الضحية أو مكان ارتكاب الجريمة. وتختلف هذه الأحكام عن تلك التي تضمّنتها اتفاقيات دولية سابقة أو لاحقة، حيث أضفت الطابع الإلزامي على مبدأ الاختصاص العالمي، فقد نصّت المواد 29 (من الاتفاقية الأولى)، و50 (من الاتفاقية الثانية)، و329 (من الاتفاقية الثالثة)، و322 (من الاتفاقية الرابعة)، على واجب الدول في البحث عن مرتكبي الانتهاكات الجسيمة، بغضّ النظر عن جنسيتهم، ومحاكمتهم أمام محاكمها الوطنية أو تسليمهم إلى دولة أخرى لمحاكمتهم، ويُعتبر هذا الالتزام إيجابياً وتلقائياً، ويستهدف تجنّب إفلات المجرمين من العقاب لأسباب إنسانية.
بالتالي، وضعت اتفاقات جنيف الأربع لعام 1949 قواعد جديدة وفريدة تفرض على الدول توسيع اختصاص محاكمها الجنائية ليشمل جرائم الحرب التي نصت عليها. وذلك من خلال إلزام الدول المتعاقدة باتخاذ إجراءات تشريعية لفرض عقوبات جنائية مناسبة على الأفراد الذين يقترفون أو يأمرون بارتكاب الانتهاكات الجسيمة لهذه الاتفاقات. كما فرضت هذه الاتفاقات على الدول المتعاقدة واجب ملاحقة المتّهمين بارتكاب هذه الجرائم قضائياً أمام محاكمها الجنائية، استناداً إلى مبدأ الاختصاص العالمي.

النظام المُكمِّل للمحكمة الجنائية الدولية يعزّز مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي[5]
يجد الاختصاص العالمي مبرّرات وجوده في الثغرات التي يعاني منها النظام الدولي فيما يتعلّق بقمع الجرائم الدولية. فعلى الرغم من إنشاء بعض الأجهزة ذات الطابع الجنائي، مثل المحاكم الجنائية الخاصّة، إلا أن فعّاليتها تبقى محدودة نظراً لمجال اختصاصها، الذي يظلّ مقيّداً من حيث النوعية والمكانية والزمنية. أمّا بالنسبة لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية، فإنه يخضع لتقييدات واضحة، فهو يعتمد على إرادة الدول في ممارسة الاختصاص، إلا في الحالات التي يتدخّل فيها مجلس الأمن الدولي لإحالة قضية ما إلى المدّعي العام، وفقًا للمادة (13/ ب) من النظام الأساسي للمحكمة. وفي هذه الحالة، يتمتّع المدعي العام بسلطة تقديرية لتحريك المتابعة.

ينصّ نظام روما الأساسي للجنائية الدولية على ضرورة اتخاذ تدابير على الصعيد الوطني لضمان عدم إفلات المجرمين الدوليين من العقاب

إضافة إلى ذلك، فإنها تعتبر محكمة "الملاذ الأخير" إذ ينصّ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في ديباجته على ضرورة اتخاذ تدابير على الصعيد الوطني لضمان عدم إفلات المجرمين الدوليين من العقاب، كما أكّد في مادته الأولى على أن المحكمة الجنائية الدولية مُكمَّلة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية، وهنا نجد تكريساً لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، من خلال النظام المُكمِّل الذي يعد أساساً لعمل محكمة الجنايات الدولية.
يعتمد النظام المكمّل في العدالة الجنائية الدولية على فلسفة قانونية وسياسية متماسكة، تستند إلى أربع مبرّرات رئيسة، وهي:
1. حماية حقوق المتهم. يضمن النظام المُكمِّل حماية المتهم من الازدواجية أو الملاحقات الجائرة، وذلك من خلال تفضيل المحاكم الوطنية للنظر في القضايا الجنائية، ممّا يعزّز حقوق الدفاع ضمن أنظمتها القضائية.

2. احترام السيادة الوطنية. يعكس هذا النظام التزاماً باحترام السيادة الوطنية للدول، من خلال منح الأولوية لاختصاصها الجنائي في معالجة الجرائم الدولية الخطيرة، بما يتماشى مع مبادئ القانون الدولي.

3. تعزيز الفعّالية القضائية. يهدف النظام المُكمِّل إلى تحقيق كفاءة أكبر في محاكمة الجرائم الدولية، إذ إن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها النظر في جميع الجرائم الخطيرة، نظراً لمحدودية اختصاصها وإمكاناتها.

4. إلزام الدول بواجباتها القانونية. يُلقي النظام المُكمِّل عبء التحقيق والمقاضاة على عاتق الدول، مطالباً إياها بتنفيذ التزاماتها القانونية بموجب قوانينها الوطنية والمعاهدات الدولية. يشمل ذلك إجراء تحقيقات فعّالة في الجرائم المزعومة، وإصدار أحكام عادلة، ما يعزّز التكامل بين القوانين الوطنية والدولية.
بذلك، يتجاوز النظام المُكمِّل مفهوم الفعالية ليجسد التزاماً شاملاً بالعدالة الجنائية الدولية، يجمع بين القانون والسياسة والأخلاقيات العامّة، في إطار متوازن يهدف إلى منع الإفلات من العقاب وحماية القيم الإنسانية المشتركة. إضافة إلى ذلك، فإن التحدّيات التي تواجهها محكمة الجنايات الدولية على مستوى ملاحقة مجرمي الحرب تبرز أهمية مبدأ الاختصاص العالمي، حيث إن المحكمة لا تمتلك جهازاً قضائياً أو شرطياً لتنفيذ أحكامها، وهي تعتمد على تعاون الدول مع المحكمة.
ومن الناحية التطبيقية، ترفض بعض الدول التعاون مع المحكمة في تنفيذ أوامر الاعتقال وتسليم المطلوبين، وهذا ما نراه من ردّات الفعل الدولية حول مذكّرات الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، فالأرجنتين صرّحت بأن مذكّرتا التوقيف تتجاهلان حقّ إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها، كما أن رئيس وزراء المجر دعا نتنياهو إلى زيارة بلاده وطمأنه بعدم تنفيذ مذكّرة الاعتقال، وقد رفضت الولايات المتحدة بشكل قاطع قرار المحكمة، إضافة إلى أن فرنسا ادعت امتلاك نتنياهو حصانة من الاعتقال في أراضيها[6].
التحدّيات أمام مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي 
رغم التحدّيات الجوهرية التي تعترض تطبيق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، فإنه يظلّ مقبولاً على نطاق واسع بين الدول، وذلك بسبب الطابع الخاص للجرائم الدولية. فلا يمكن لأيّ دولة أن تعترف رسمياً بهذه الجرائم أو تتجاهل معاقبة مرتكبيها، وهو ما يجعل هذا المبدأ أحد أبرز نقاط القوة في النظام القانوني الدولي[7]، إلا أن تطبيقه العملي يثير العديد من الصعوبات، إذ يظلّ معناه الدقيق غير واضح، وتظلّ آثاره القانونية موضع نقاش مستمرّ. فهل يمكن اعتباره مجرّد مبدأ قانوني عام يستوجب "الالتزام بتوفير الوسائل" اللازمة لتحقيقه؟ أم أنه يتضمّن أيضاً مبادئ توجيهية ملزمة ينبغي على المجتمع الدولي ككل اتباعها؟
علاوة على ذلك، يبدو أن الإشارات العامّة إلى هذا المبدأ خارج الإطار القانوني (سواء من خلال وسائل الإعلام أو إدراجه في السياسات العامة) قد أسهمت في تقليص فعّاليته بدلاً من تعزيزها، ممّا يبرز الحاجة إلى تحديد دقيق وواضح لحدوده وآليات تنفيذه.

تُبرز التحدّيات التي تواجهها محكمة الجنايات الدولية على مستوى ملاحقة مجرمي الحرب أهميةَ مبدأ الاختصاص العالمي

1- التحدّيات القانونية
عندما تُرتكب الجريمة خارج حدود الدولة، ويكون المتّهم خارج نطاقها الجغرافي، تواجه سلطات الدولة التي تعتمد مبدأ الاختصاص العالمي قيوداً تعيق قدرتها في تنفيذ إجراءات التحقيق، جمع الأدلة، واستجواب المتهم. هذا الوضع يثير تحدّيات قانونية معقّدة تعيق ملاحقة الجناة وضمان العدالة.

إشكالية الإثبات: من أبرز التحدّيات التي تواجه تحقيق العدالة الجنائية من خلال ممارسة القاضي الوطني لاختصاصه القضائي على الجرائم المرتكبة خارج حدود الدولة، ومن أجانب، تكمن في صعوبة جمع الأدلة. فعادةً ما يكون الضحايا وغالبية الأدلة موجودين في الدولة التي وقعت فيها الجريمة. وهذا يستدعي ضرورة نقل الضحايا، الشهود، والوثائق إلى الدولة المختصة بالادعاء، ممّا يزيد من تعقيد عملية الإثبات في القضية[8]وقد اشترطت غالبية التشريعات الوطنية، التي تبنّت مبدأ الاختصاص العالمي تواجد المتّهم داخل إقليم الدولة المعنية شرطاً أساسياً لتفعيل اختصاص محاكمها الجنائية، ممّا يعكس محدودية هذا المبدأ في التطبيق العملي، لذلك نجد أن مؤسّسة "هند رجب" تنتهز فرصة وجود أحد المشتبه فيهم في أراضي دولة تقبل الاختصاص الجنائي العالمي لتقيم عليهم دعوى، فقد لاحقت المؤسّسة في ديسمبر/كانون الأول 2024 الجندي[9] المشتبه به أثناء تواجده في البرازيل، الذي أصدرت محكمة فدرالية مذكّرة تحقيق ضدّه للاشتباه في مشاركته في جرائم ضدّ الإنسانية، ثمّ عند هروبه إلى الأرجنتين أقامت عليه في يناير/ كانون الثاني 2025 دعوى أخرى لدى المحاكم الأرجنتينية، وعلى جندي آخر مقاتل في لواء غفعاتي، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية[10]. لكن تجدر الإشارة إلى أن بعض الدول لم تشترط ذلك، بل وضعت إمكانية مباشرة الدعوى غيابياً، وتأكيداً على ذلك، قبل القضاء الإسباني في 29 يناير 2009 دعوى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ضدّ وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق بنيامين بن إليعازر، ورئيس الأركان الأسبق، دان حالوتس، بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، لدورهما في اغتيال صلاح شحادة عام 2002. وقد طالبت المحكمة الوطنية الإسبانية بمثول المشتبه بهم السبعة أمام القضاء الإسباني خلال 30 يوماً، وإلا ستُصدر في حقّهم أوامر اعتقال دولية[11].

وأمام إشكالية الإثبات، نجد أن مؤسّسة "هند رجب" تعتمد أساليب متقدّمة في جمع الأدلة ضدّ الجنود الإسرائيليين المتورطين في جرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، فركّز في تحليل المحتوى المنشور على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. كما ترصد المؤسّسة وتصنّف الفيديوهات والصور والمعلومات التي ينشرها الجنود بأنفسهم أو ترتبط بأنشطتهم العسكرية. كما تستعين ببيانات مفتوحة المصدر لتحديد هُويَّة الجنود ومواقعهم، بالإضافة إلى تتبّع أنشطتهم السابقة المرتبطة بالعمليات العسكرية. تُكمل المؤسّسة هذه الجهود بمقابلات مع شهود العيان وضحايا الجرائم، فضلاً عن التعاون مع منظّمات حقوق الإنسان المحلّية والدولية، بهدف توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بشكل دقيق ومتكامل. وهذا ما أسفر عن أن كثر من ألف جندي وضابط إسرائيلي باتوا مطلوبين للمحاكم في عدة دول في العالم بتهمة المشاركة في جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزّة.
تنازع الاختصاص: يتعلّق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي بكلٍّ من القانون الدولي والقانون الوطني، فتمنح الدول محاكمها ولاية قضائية عالمية بشأن جرائم معيّنة بناءً على قرارات وطنية، وليس فقط استناداً إلى قواعد أو مبادئ في القانون الدولي. ونتيجة لذلك، لا يُطبق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي بطريقة موحّدة في جميع الدول، بل يختلف نطاق تطبيقه من دولة إلى أخرى. يظهر هذا الاختلاف في حالتَين رئيستَين. الأولى عندما تدّعي دولة اختصاصها في جريمة بناءً على مكان وقوعها، ممّا يثير تنازع الاختصاص الإقليمي. أمّا الحالة الثانية، فتتعلّق بتنازع الاختصاص عندما تطالب أكثر من دولة بالولاية القضائية استناداً إلى مبدأ الشخصية[12].
 ولكنّنا نرى أن مسألة تنازع الاختصاص ليست إشكاليةً مطروحةً أمام دعاوى مؤسّسة "هند رجب" أمام المحاكم الوطنية في دول العالم، وذلك لأن جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة مكانها في أراض تابعة للسلطة الفلسطينية حسب قرارات الأمم المتحدة، وبالتالي فإنه من غير المعقول أن تنازع السلطة الفلسطينية في اختصاص المحاكم الوطنية الأخرى التي ادعت لديها مؤسّسة "هند رجب" نظراً لعدم قدرة المحاكم المحلية الفلسطينية على محاسبة مرتكبي هذه الجرائم نتيجة العقبات السياسية والعملية، وهذا ما يُفسِح المجال أمام المحاكم الوطنية في الدول الأخرى لتطبيق الاختصاص العالمي، وملاحقة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، خاصّة أن الدعاوى المرفوعة في المحاكم الوطنية تحظى بفضل جهود مؤسّسة هند رجب، بدعم المنظّمات الدولية والمحامين الحقوقيين، الذين يعملون في تعزيز استخدام مبدأ الاختصاص العالمي لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضدّ الإنسانية.
ومن الناحية الأخرى، فإن مسألة التنازع في الاختصاص استناداً إلى مبدأ الشخصية غير ممكن من الناحية العملية، وذلك لاستحالة محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحاكم الإسرائيلية وفقاً لمبدأ الشخصية، لأن هذه المحاكم جزء من الاحتلال الذي لم يثبت تاريخياً أن حاكم قادةً أو جنوداً إسرائيليين محاكمةً عادلة عن ارتكابهم جرائم ضدّ الفلسطينيين أو العرب.
2- التحدّيات السياسية التي تواجه تطبيق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي
تُعدّ التحدّيات السياسية من أبرز العقبات التي تواجه تطبيق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي. إذ تعتمد إمكانية مقاضاة مرتكبي هذه الجرائم بشكل كبير على الإرادة السياسية للدولة التي تُرفع أمام محاكمها الدعوى. في كثير من الحالات، تتردّد بعض الدول في تفعيل الاختصاص الجنائي العالمي خشية التأثير في علاقاتها الدبلوماسية مع دول أخرى، خاصّة إذا كانت الجهة المتهمة بارتكاب الجرائم دولة قوية أو تتمتع بنفوذ دولي. وفي حالة الحرب الماضية على قطاع غزّة، يُواجه استخدام الاختصاص العالمي عراقيل سياسية، منها الضغوط التي تمارسها إسرائيل وحلفاؤها على الدول لعرقلة محاولات محاسبة المسؤولين عن الجرائم. كما أن بعض الدول قد تتحفّظ على اتخاذ خطوات قانونية جدّية خشية الاتهام بالتسييس أو تعرّضها لانتقادات دولية.

تعتمد مؤسّسة "هند رجب" أساليبَ متقدّمة في جمع الأدلة ضدّ الجنود الإسرائيليين فتركز في تحليل المحتوى في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي

يمثّل الضغط الإسرائيلي والعقوبات الأميركية عوامل حاسمة في عرقلة تفعيل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، خاصّة فيما يتعلّق بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي تُرتكب في قطاع غزّة. تستخدم إسرائيل نفوذها السياسي والدبلوماسي للتأثير في الدول التي تُرفع أمام محاكمها دعاوى الاختصاص العالمي، حيث تُمارس ضغوطاً مباشرةً وغير مباشرة، لمنع ملاحقة قادتها أو مسؤوليها أمام القضاء الدولي أو الوطني. وتستغلّ إسرائيل، بدعم من حلفائها، اتهام معارضيها بمعاداة السامية وسيلةً للضغط السياسي والإعلامي، بهدف تشويه صورة المنظّمات الحقوقية والقانونية التي تعمل لملاحقة مرتكبي الجرائم. يُستخدَم هذا الاتهام بشكل متكرّر لإسكات الأصوات المطالبة بالعدالة وإثارة الرأي العام ضدّ الجهود القانونية، حتى وإن كانت هذه الجهود تستند إلى أسس قانونية دولية واضحة. كما يُعدّ إقرار مجلس النواب الأميركي قانوناً يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية ترجمةً واضحةً للتهديدات الأميركية المستمرّة للدول والمنظّمات التي تحاول ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية في قطاع غزّة. يأتي هذا القانون، المعروف بـ"مكافحة المحكمة غير الشرعية"، تصعيداً إضافياً في سياق الجهود الأميركية لحماية حلفائها، بمن فيهم إسرائيل، من المساءلة الدولية، وتعزيزاً لثقافة الإفلات من العقاب، وتسييس الوظائف القضائية[13].
تعكس العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية رغبة في تقويض أدوات العدالة الدولية إذا ما مسّت مصالح حلفائها، بل وتشكّل رسالةَ تحذير للدول التي تفعّل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في قضايا مشابهة. فإذا كانت الولايات المتحدة مستعدّةً لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية، وهي مؤسّسة دولية معترف بها، فإنها بالتأكيد لن تتردّد في ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية أشدّ على الدول، التي تعتمد الاختصاص العالمي لملاحقة الجرائم المرتكبة من المسؤولين الإسرائيليين. هذا الوضع يطرح تساؤلات جدّية حول مدى قدرة الدول على التمسّك بمبادئ العدالة الدولية في وجه الضغوط الأميركية والإسرائيلية، ويبرز الحاجة إلى توحيد الجهود الدولية لدعم المحكمة الجنائية الدولية والدول التي تسعى لتطبيق الاختصاص الجنائي العالمي. كما يسلّط الضوء على التحدّي الكبير المتمثّل في تحقيق العدالة في عالم يخضع لمعادلات سياسية غير عادلة تعيق معاقبة مرتكبي الجرائم ضدّ الإنسانية.
ورغم ذلك، تسعى بعض المنظّمات الحقوقية مثل مؤسّسة "هند رجب" إلى تجاوز هذه التحدّيات من خلال العمل على رفع وعي المجتمع الدولي، وتقديم أدلة قانونية لا يمكن تجاهلها، والضغط على الدول لاحترام التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني. تظلّ الإرادة السياسية للدول عاملاً حاسماً في ترجمة مبادئ العدالة إلى إجراءات ملموسة، ممّا يبرز أهمية الجهود الدبلوماسية والحقوقية لتحقيق العدالة لضحايا الجرائم في غزّة. وتقدّمت مؤسسة "هند رجب" بطلبات اعتقال لنحو ألف ضابط وجندي إسرائيلي يحملون جنسيات مزدوجة في ثماني دول بينها إسبانيا وإيرلندا وجنوب أفريقيا، كما تقدّمت  بنحو 50 شكوى ضدّ جنود احتياط في الخارج، وفُتِح 12 تحقيقاً في عدّة دول منها البرازيل والأرجنتين وتشيلي وتايلند وقبرص[14]، إضافة إلى ذلك، فقد تقدّمت المؤسّسة بطلب رسمي للمحكمة الجنائية الدولية والسلطات الإيطالية لاعتقال اللواء غسان عليان منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في مناطق السلطة الموجود حاليا في إيطالياً، بدعوى أنه يتحمّل المسؤولية عن الإجراءات التي أدّت إلى تجويع سكان غزّة أثناء الحرب في القطاع[15].
رغم أن معظم الدعاوى والطلبات لم تؤدِ إلى محاكمات فعلية، فإن فتح التحقيقات يعكس التزاماً بمبدأ العدالة الدولية ومكافحة الإفلات من العقاب. كما أن ردّات الفعل الإسرائيلية تشير إلى أهمية تفعيل هذه الآلية في محاكمة المجرمين الدوليين، حتى وإن كانوا بعيدين من ساحة القتال. إذ تعيش إسرائيل حالة من الإرباك بسبب الدعاوى القضائية المتزايدة ضدّ جنودها في محاكم دولية، مما دفعها إلى إصدار تعليمات فورية بإخفاء هُويّات الجنود والضباط المشاركين في العمليات العسكرية، مع فرض قيود على سفرهم وحظر نشر أي صور أو مقاطع فيديو قد تستخدم أدلّةً ضدّهم.
ولمواجهة هذه الملاحقات القانونية، خاصةً في ظلّ الخوف من مذكّرات اعتقال قد تصدر من المحكمة الجنائية الدولية ضدّ شخصيات مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، أنشأت وزارة الخارجية الإسرائيلية غرفة طوارئ، فيما أسّست النيابة العسكرية وحدة استشارية خاصة. وأصدر وزير الخارجية تعليمات بالعمل بسرّية، وتوجيه هيئة أركان الجيش بحظر نشر أيّ صور أو وثائق عن العمليات العسكرية في منصّات التواصل الاجتماعي[16].

نتيجة جهود المؤسّسة بات كثر من ألف جندي وضابط إسرائيلي مطلوبين للمحاكم في عدة دول بتهمة المشاركة في جرائم الإبادة الجماعية

3- التحدّيات والفرص في الدول العربية
رغم أن معظم الدول العربية قد انضمت إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تُلزم أطرافها بالبحث عن مرتكبي الجرائم الدولية وملاحقتهم، إلا أن تطبيق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في هذه الدول لا يزال محدوداً. هذا القصور يرتبط بغياب الإرادة السياسية في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، وافتقار العديد من الدول العربية إلى تشريعات واضحة تُفعّل هذا المبدأ، مما يُعيق ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، خاصّة في القضايا المتعلّقة بالاحتلال الإسرائيلي. على الرغم من أن نظام روما الأساسي، الذي يُعدّ من الأدوات الأساسية لدعم مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، لم تُصادق عليه أو تُوقّعه سوى ثلاث دول عربية (الأردن، تونس، وفلسطين)، فإن غالبية الدول العربية ما تزال تتجنّب الانضمام إليه بسبب مخاوف سياسية متعلّقة بتدخّل المحكمة الجنائية الدولية في شؤونها الداخلية، فضلاً عن الضغوط الدولية والإقليمية التي تواجهها.
وكانت الأردن أوّل دولة عربية تنضمّ إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، فقامت بتعديل تشريعاتها الوطنية لتواكب الالتزامات الدولية المتعلّقة بملاحقة الجرائم الدولية. بعد ذلك، انضمت تونس إلى النظام نفسه في عام 2011، وأدخلت إصلاحات قانونية تهدف إلى تعزيز قدرة النظام القضائي على ملاحقة الجرائم الدولية. أما فلسطين، التي انضمت إلى نظام روما في 2015، فقد عملت على تفعيل هذا المبدأ من خلال التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. رغم ذلك، يبقى التطبيق العملي لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في الدول العربية محدوداً، إذ لم تُسجل حالات بارزة لمحاكمات قائمة بناءً على هذا المبدأ. علاوة على ذلك، فإن بعض الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي لا تعتبر الجرائم المرتكبة بحقّ الفلسطينيين جرائم دولية، مما يجعلها في موضع الاتهام بتوفير ملاذات آمنة لمجرمي الحرب الإسرائيليين ومنحهم حصانات ضمنية تحول دون ملاحقتهم وفقًا للقانون الدولي. هذا الواقع يعكس ازدواجيةً في المواقف وضعفاً في الالتزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني. ومن جهة أخرى، فإن عدم سفر مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى الدول العربية غير المطبّعة مع الاحتلال الإسرائيلي يعوق إمكانية رفع الدعاوى ضدهم لدى المحاكم الوطنية لهذه الدول، بموجب مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، خاصّة أن بعض الدول العربية غير المطبعة تمنع الإسرائيليين من دخول أراضيها.

تعتمد إمكانية مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب على الإرادة السياسية للدولة التي تُرفع أمام محاكمها الدعوى

خاتمة
يُعدّ مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي من الأدوات القانونية الأساسية التي تسهم في ضمان محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية على مستوى عالمي، وهو مبدأ يتيح للدول الحقّ في محاكمة الجناة المتورّطين في جرائم مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، بغضّ النظر عن المكان الذي وقعت فيه هذه الجرائم أو جنسية مرتكبيها. هذا المبدأ يُعتبر ضرورةً ملحّة في تحقيق العدالة، خصوصاً في ظلّ تزايد الجرائم الدولية التي يرتكبها أفراد وجماعات من دون مراعاة للقوانين الإنسانية الدولية. وقد أصبحت المحاكم الوطنية التي تفعيل هذا الاختصاص على مستوى العالم أداةً فعّالةً في محاكمة مجرمي الحرب، وهو ما يتجسّد في مساعي بعض الدول لمحاسبة الجنود الإسرائيليين المتورّطين في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في غزّة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
ورغم التحديات السياسية والقانونية التي يواجهها تطبيق هذا المبدأ، خاصّة في ظلّ الضغوط الدولية التي قد تتعرّض لها الدول التي تسعى لمحاكمة هؤلاء الأفراد، فإن استمرار الجهود القانونية من منظّمات حقوق الإنسان والمحاكم الوطنية يعكس عزيمة المجتمع الدولي في مكافحة الإفلات من العقاب. ومثال ذلك جهود الأفراد والمجموعات الحقوقية، مثل "هند رجب"، التي تسعى بلا كلل إلى تسليط الضوء على جرائم الحرب المرتكبة ضدّ الشعب الفلسطيني، مؤكّدة على ضرورة محاكمة الجناة مهما كانت خلفياتهم السياسية أو العسكرية. وفي ضوء هذه المعطيات، يبقى الأمل في أن يؤدّي تفعيل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي إلى تقوية النظام القضائي الدولي وزيادة فعالية المحاكمات المرتبطة بالجرائم الدولية، كما يعزّز من التأكيد على أن العدالة لا تتوقّف عند الحدود الجغرافية أو السياسية، وأن المجرمين يجب أن يواجهوا العدالة أينما كانوا، بغضّ النظر عن قوتهم أو نفوذهم.

هوامش

[1] مؤسّسة "هند رجب" هي منظمة حقوقية غير حكومية مقرها بروكسل، بلجيكا، تأسست في فبراير 2024. سُمّيت المؤسسة تيمّناً بالطفلة الفلسطينية هند رجب، التي قتلها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزّة عام 2024، وتهدف المؤسّسة إلى ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين من خلال اتخاذ إجراءات قانونية ضدّهم في المحاكم الدولية، والمحاكم الوطنية مستفيدةً من مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، بالإضافة إلى تنظيم حملات لزيادة الوعي بالانتهاكات والجرائم المرتكبة ضدّ الفلسطينيين والعمل على توثيق هذه الجرائم ونشرها للعالم.
[2] مبدأ الشخصية في القانون الجنائي هو أحد مبادئ الاختصاص الجنائي التي تتيح للدولة تطبيق قوانينها الجنائية بناءً على جنسية الأشخاص، سواء كانوا جناة أو ضحايا، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة. وينقسم المبدأ بين قسمين، الشخصية الإيجابية وهي أن تختصّ الدولة بمحاكمة مواطنيها الذين يرتكبون جرائم في الخارج، والشخصية السلبية، وهي أن تختصّ الدولة بمحاكمة الأجنبي الذي يرتكب جريمة ضدّ أحد مواطنيها في الخارج.
للمزيد انظر:
Antonio Cassese, International Criminal Law, 2nd ed. (Oxford: Oxford University Press, 2008).

[3] H. Donnedieu De Vabre, «Le système de la répression universelle ses origines historiques, ses formes contemporaines», R.D.I.P., tome XVIII, 1992-23, p. 533.
[4] "دعاوى ضدّ مسؤولين إسرائيليين"، الجزيرة، 17/12/2009، شوهد في: 15/1/2025، في: https://2u.pw/zgOvMoPL
[5] See: Paul Seils, Handbook on Complementarity An Introduction to the Role of National Courts and the ICC in Prosecuting International Crimes, International Center for Transitional Justice, 2014.
[6] "ما هي أبرز ردود الفعل الدولية على قرار اعتقال نتانياهو ووزير الدفاع السابق غالانت؟" ، فرنسا 24، 21/11/2024، شوهد في: 15/1/2025، في: https://2u.pw/0s3OIdio
"حصانة" فرنسية لحماية نتنياهو.. هل كانت ثمناً لدور باريس بوقف حرب لبنان؟"، العربي، 27/11/2024، شوهد في: 15/1/2025، في: https://2u.pw/DCp2KfPM
[7] Xavier Philippe, The principles of universal jurisdiction and complementarity: how do the two principles intermesh?,Vol.88, N.862, June 2006.
[8] أشرف عبد العليم، الاختصاص القضائي الدولي، (القاهرة: دار الكتب القانونية، 2006) ص. 66.
[9] تتجنب المؤسّسة تسمية الجندي لمنع السلطات الإسرائيلية من تحذيره، ولكن وزير الخارجية جدعون ساعر وكبار المسؤولين قاموا بجهد منسق مع الجيش لتحديد هويته، وفي غضون ساعات اتصلت به القنصلية وعائلته، مؤكدين على الحاجة إلى خروجه الفوري.
[10] "رفع دعوى قضائية ضد جنديين إسرائيليين بالأرجنتين لارتكاب جرائم حرب بغزة" الجزيرة، 7/1/2025، شوهد في: 15/1/2025، في: https://2u.pw/mSmlO0Zj
[11] "دعاوى ضد مسؤولين إسرائيليين"، الجزيرة، 17/12/2009، شوهد في: 15/1/2025، في: https://2u.pw/zgOvMoPL

[12] نزار قشطه، مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي في نظام العدالة الدولية بين النظرية والتطبيق، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الإسلامية، المجلد 22، العدد 2، يونيو 2012، ص. 598.
[13] "خبراء أمميون: مشروع القانون الأمريكي ضد المحكمة الجنائية الدولية يعزز ثقافة الإفلات من العقاب"، الأمم المتحدة، 10 يناير 2025، شوهد في: 15 يناير 2025، في: https://news.un.org/ar/story/2025/01/1138061
[14] "هند رجب" كابوس جديد يلاحق الجيش الإسرائيلي حول العالم"، الجزيرة، 10/1/2025، شوهد في: 15/1/2025، في: https://2u.pw/GGFZp9g4
[15] "مؤسّسة تطالب باعتقال الجنرال الإسرائيلي غسان عليان.. موجود سراً في إيطاليا"، عربي 21، 13/1/2025، شوهد في: 14/1/2025، في: https://2u.pw/cQR0yxZq
[16] يحيى قاسم، إسرائيل تتخذ خطوات شاملة لحماية جنودها من الملاحقات القضائية الدولية، الحرة، 6/1/2025، شوهد في: 14/1/2025، في: https://2u.pw/7QxnvfmT

إسلام المدهون
إسلام المدهون
باحث فلسطيني، حاصل على الماجستير في حقوق الإنسان من معهد الدوحة.