في ذكرى ثورة يوليو... مصر وغزّة
جمال عبد الناصر (يسار) بصفته رئيساً للوزراء يزور فدائيين في قطاع غزّة (16/5/1956 Getty)
قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: "كنّا نحارب في فلسطين، ولكن أحلامنا كلّها كانت في مصر"... بينما كان عبد الناصر ضابط أركان حرب الكتيبة السادسة مشاة في مدينتَي رفح وغزّة، كانت مشاعره تستحضر دائماً حالة المجتمع المصري، بل إنه اعتبر أن مصر (كتاب فلسفة الثورة) "فالوجا أخرى على نطاق كبير"، فقد منحت حرب فلسطين روحاً ووعياً جديداً لفكرة تغيير النظام والثورة عليه؛ وهو ما كان واضحاً في بيان الضبّاط الأحرار صبيحة يوم 23 يوليو/ تموز 1952: "وتسبّب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين". وتكشف أولى عبارات البيان علاقةً وثيقةً بين هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين 1948 وتنظيم الضبّاط أنفسهم، وإصرارهم على إطاحة النظام الملكي الحاكم، إذ عكست استجاباتهم لحرب فلسطين ونكبتها (بل ولخّصت) نشأتهم وطموحاتهم الوطنية، التي صقلت إرادتهم في التغيير، فلم تكن مقاومة المُحتلّ الإنكليزي وحدها (خاضه الضبّاط طوال الأربعينيات وأثّر في وعيهم) كافياً لاختمار الفعل الثوري، بل إن تجربة الهزيمة المُرّة في فلسطين، وما أفرزته من سخط في صفوف الضبّاط، دفعت نحو صناعة حدث جذري غير مسبوق في الوعي الوطني المصري، وكان الحلّ: ثورة من أعلى؛ من داخل أقوى مؤسّسات النظام، وحامية حِماه، لا من الشعب في الشارع، ولا الأحزاب في البرلمان.
توافقت لحظة الإدارة المصرية لقطاع غزّة مع اللحظة القومية وحضور عبد الناصر في انتظار وعده بالتحرير والنصر
اتّضحت نيات نظام يوليو تجاه غزّة، فهو لن يتخلّى عن القطاع لإسرائيل، أو يسلّمه إلى سلطة فلسطينية أو دولية، بل سيسيطر عليه بصورة استثنائية من دون ضمّه أو دمجه مع الكيان المصري؛ ففي ديسمبر/ كانون الأول 1953، أصدرت الحكومة القانون رقم 621 لسنة 1953، القانون الأساس للمنطقة الواقعة تحت رقابة القوات المصرية بفلسطين، الذي حرص على تمييز القطاع وسكّانه من الدولة المصرية ومجتمعها، ولم يخضع القطاع لخطط التأميم، أو قوانين يوليو الاشتراكية التي طُبّقت في مصر وسورية (الجمهورية العربية المتحدة)، كما لم يكن مرتبطاً بقوانين الإصلاح الزراعي التي بدأت في مصر منذ 1952، فكان للقطاع قضاء مستقل، ومجلس تشريعي يَسنّ القوانين، وجريدة رسمية تُنشر فيها تلك القوانين، ومجلس تنفيذي لحكم القطاع، وإن كانت تلك المؤسّسات يتربّع في قمّتها الحاكم الإداري العسكري المصري.
أدرك ضبّاط يوليو أن القضاء على الاستعمار (أبرز أهداف الثورة) يبدأ من الاستمرار في نهج معاداة إسرائيل رمزياً، واستمرّت القيود على الناقلات الإسرائيلية عبر قناة السويس وخليج العقبة قائمةً، وفي الوقت نفسه العمل على تدريب ودعم الفدائيين الفلسطينيين، وشكّلَ العام 1953 نقطةَ تحوّل رئيسة في علاقة مصر بإسرائيل، انطلاقاً من قطاع غزّة، فبعد هدوء نسبي استمرّ خمس سنوات، اشتعلت جبهة غزّة؛ فهاجمت قوات إسرائيلية مخيّم البريج (منتهكةً سيادة مصر وإدارتها للقطاع) في أغسطس/ آب من العام نفسه، وقتلت خمسين مدنياً فلسطينياً، علاوة على تدمير المخيّم ومرافقه، الأمر الذي تصاعد في سلسلة من عمليات المقاومة المدعومة مصرياً، وصولاً إلى الاعتداء الأخطر على قوات الجيش المصري في غزّة في فبراير/ شباط 1955، إذ قرّرت إسرائيل إطلاق عملية السهم الأسود لمهاجمة الحامية المصرية في غزّة، في أول اعتداء لها منذ عام 1948، الأمر الذي نتج منه مقتل 39 جندياً مصرياً، وتدمير منشآت الحامية وبعض مرافقها، وتزايدت حالة العداء بين الطرفَين، ولم تتوقّف العمليات العسكرية المتبادلة؛ وإن كانت عمليات الجانب الإسرائيلي أشدّ قسوةً، ففي أغسطس/ آب من عام 1955 هاجمت إسرائيل القوات المصرية في خانيونس وقتلت عشرات من الجنود المصريين، وفي مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 1955 أطلقت إسرائيل عملية البركان ردّاً على مقتل جندي إسرائيلي واحد، وهاجمت المواقع المصرية في منطقة العوجة، وقتلت ما يزيد على 80 فرداً من الجنود المصريين.
لا بدّ من طرح رؤية تتضمّن قدرة وإدارة وطنية فلسطينية مستقلة لقطاع غزة من دون وصاية أو احتلال
ولم يُثن ذلك عبد الناصر، الذي صرّح: "ليس أمامنا إلا أن نعتمد على أنفسنا ضدّ العدوان"، واستمرّت حالة العداء حتى حرب السويس (1956)، واستيلاء إسرائيل على قطاع غزّة مؤقّتاً، وكان لافتاً رفضها إدارة مصر القطاع بعد انسحاب قواتها من غزّة، إلا أن إصرار سكّان غزّة وتظاهرهم أسبوعاً أجبرا القوات الدولية على إعلان عدم قدرتها على إدارة القطاع، ما أجبر على العودة المصرية لإدارة غزّة، وامتازت فترة 1957 وحتى مطلع يونيو/ حزيران 1967 بالهدوء، وعدم تسجيل أيّ مواجهةٍ أو اعتداءٍ إسرائيلي على القوات المصرية. كانت لحظة الإدارة المصرية للقطاع متوافقة مع اللحظة القومية، وحضور عبد الناصر في نفوس الجماهير في انتظار الوعد الناصري بالتحرير والنصر؛ وهو الأمر الذي أدرك خطره قادة إسرائيل، خصوصاً بن غوريون، الذي كان يُسمّي عبد الناصر "الديكتاتور"، ومن ثمّ دُمّر الوعد الناصري في 1967.
من الضروري الآن إعادة تصوّر مصير ومستقبل قطاع غزّة؛ إذ بات ذلك مستحيلاً في ظلّ المعطيات القديمة، بل لا بدّ من طرح رؤية تتضمّن قدرة وإدارة وطنية فلسطينية مستقلة من دون وصاية أو احتلال، وهو ما يدركه الاحتلال الذي يعزّز انشقاق الصفّ الفلسطيني، ويحرص على تضييق أيّ حلول للقطاع بغير حلَّين: التهجير أو إدارة مصرية وعربية تضمن أمن إسرائيل ونفوذها، وهذا يعني عملياً تصفية القضية الفلسطينية، ومن ثمّ فلا حلَّ إلا داخل الجماعة الوطنية الفلسطينية، وليس هناك طريق أو مجال أو تحالفات أخرى.