ما خلف صناعة التظاهرات في مصر

15 ابريل 2025

متظاهرون مصريون في العريش رفضاً لتهجير الفلسطينيين من غزّة (8/4/2025/ إكس)

+ الخط -

تبرز حاجة النظام في مصر إلى إظهار رأي عام رافض لمخطّطات التهجير والعدوان على غزّة، لكنّ سماته السلطوية تحدّ من إمكانية التعبئة السياسية، وإحداث حراك يمثّل ظهيراً شعبياً يسانده، خاصّة في ظلّ إصرارٍ على تقييد أشكال الحقّ كافّة في التعبير. هنا يبرز التناقض، بين هدفه من وجود حراك ونفى شروط تحقّقه في الوقت ذاته. ولحلّ هذه المعضلة، يستدعي أنصاره لصناعة مشهد من التظاهر، لكن في النهاية، يصبح هذا السلوك منخفض العائد والتأثير ولا يحقّق أغراضه.
ويتطلّب تشكّل حراك يلتقي مع توجّهات النظام (جزئياً أو كلياً) مساحاتٍ من الحرية، إلى جانب فاعلية للتنظيمات السياسية، وإزالة ما يُعطّل المشاركة الطوعية وروح المبادرة، ومنها نفي مخاوف حول دعوة النظام إلى رفض التهجير، بخاصّة مع بقاء عشراتٍ محتجزين بتهم التظاهر أو كتابة عبارات تضامنية مع الشعب الفلسطيني (بينهم طفلان). إلى جانب ذلك، هناك معضلات عدّة تتعلّق بالتظاهرات المصطنعة، وما بين ذلك طرق (وأهداف) الحشد وتعبيرات المشاركين فيها وسمات التظاهرات، ومنها عجزٌ عن صياغة خطاباتٍ سياسية، ومطالب تناسب أغراض الفاعليات، متوافقة مع الظرف الراهن.

لا يريد النظام المصري حراكاً قد يمسّ الاستقرار السياسي، ويعتمد عوضاً من ذلك على نمط التعبئة السلطوية والتظاهرات المصطنعة

وتحوّلت التظاهرات التي يدعو إليها النظام للتضامن مع الشعب الفلسطيني فرصة لإظهار فئات الولاء السياسي للسلطة، فيما يشبه الدعاية في الانتخابات الرئاسية، وبما تحتويها من مشاهد ولافتات وشعارات، وبذلك أصبحت بعيدة من عنوانها، محدودة الأثر، سواء في أطراف إقليمية أو دولية، أو حتى داخلياً، في ظلّ استشعار أنها دعائية الطابع، بلا مضامين سياسية تخصّ تداعيات الحرب، ويبقى تبلور حراك شعبي حقيقي، يواجه تحدّيات موضوعية، منها تقيّد الحرّيات، وحصار الأحزاب والنقابات، واعتماد سياسة الترهيب، وهو ما يحجب (مع ظروف ذاتية للقوى السياسية) فرصَ التعبير عن أصوات المصريين ووجدانهم، وإبراز مطالب بتطوير المواقف الرسمية عبر خطوات دبلوماسية، وفكّ الحصار على القطاع، الذي يشهد حروب الإبادة والتجويع، ويفتقد متطلّبات الإغاثة، حتى آليات إنقاذ تساعد في انتشال من تحت الأنقاض، واستمرار هذه المأساة الشاملة، يحوّل التهجير واقعاً، ولا تكفي لمواجهته بيانات الرفض من دون خطوات تحدّ من أسباب تحقّقه.
وفي الوقت الذي يحتاج النظام لرسم صورة لرأي عامّ رافض للتهجير، يحتجز فرص التظاهرات الشعبية ذاتية التنظيم، المعبّرة عن وجدان ومواقف المشاركين وتنوّع شعاراتهم وديناميكية الحراك، ويملأ الفراغ بتظاهرات تتخذ شكّل المهمّة، مُخطَّط لها مركزياً، تفتقد الحيوية والمصداقية، ينفّذها (ويموّلها) رجال أعمال ينتمون إلى أحزاب أسّستها أجهزة الأمن، ويضمّ إليها أحزاباً كرتونية لإبراز صورة الجبهة السياسية، في تصوّر واهم بأن ذلك يحقّق الاصطفاف الوطني. لكنّ ذلك التوجه لصناعة مشاهد من التظاهرات محدودة الفاعلية، لأنّ القائمين عليها ليس لديهم إيمان بتأثير (وأهمية) الرأي العام، وفي اعتقادهم بأن شرعية التغلّب ونهج القوّة وحدهما يسهمان في نجاح أداء النظم واستدامته. وبالتالي، جدوى الحراك لديهم محدود، ولا يأخذ على محمل جادّ بوصفه رسالة شعبية بقدر كونه آلية للحشد، كما في الانتخابات التي يدخلها المرشّحون وهم على قناعة بالفوز.
وبين فاعليات "التظاهر بالأمر" مشاهد دالّة على ضعفها وخواء محتواها وافتقادها إلى الحيوية، وبعض مشاهدها بائس يشجّع على السخرية في غير موضعها، وأقلّ قيمة ومصداقية من مجاميع في السينما والدراما، وتقيّم بأنها تحصيل حاصل، وهو ما ينعكس على مضامين تعبيرات المشاركين بالقول إنهم يتظاهرون من أجل تفويض جديد للقيادة السياسية، كما تفويض سابق في "مواجهة الإرهاب"، في حين يلحّ بعض الداعين للاحتشاد على أهمية وجود قائد تبرز صورته في مواجهة المخاطر والتحدّيات الأمنية.
ويلاحظ ضمن هذه الفعاليات عجز عن إبداع شعارات، وطرح مطالب تخصّ موضوع التظاهر، ليتحول المشهد لأداة دعاية، إلى جانب أنها وظيفياً أداة ومناسبة لتأكيد الولاء السياسي، بما يخدم أغراض من يصنعون الحشد، ويهمّشون موضوع التظاهر الأساس؛ التضامن مع الشعب الفلسطيني. إلى ذلك، ظهر في هذا المشهد، نقصان في مهارات التنظيم، وفهم آليات العمل السياسي، وغياب تنظيمات كانت تدّعي القوة وامتلاك نفوذ جماهيري، يؤهّلها لتساند السلطة، وتحوز مقاعد البرلمان، وهو ما يبرز حقيقتَين، أن السلطة من دون روافد وأعمدة تنظيمية تمتلك حدّاً أدنى من كوادر سياسية وقواعد جماهيرية، وأن النظام لم يستطع (كما حسني مبارك مثالاً) التعامل مع الرأي العام، واستثمار لحظة تلاقٍ نادرة بين خطابه الرافض للتهجير، وتوجّهات شعبية تعادي الاحتلال، ما يحدّ من فرص نجاح الرهان أن يكون "الموقف المصطنع" جزءاً من رصيد في تحرّكات على مستوى إقليمي ودولي. في المقابل، هناك نظم ليست ديمقراطية، لكنّها سمحت بالتظاهر، ولم يمنع تطبيعها مع الاحتلال من ترك مساحات للتعامل مع الرأي العام.

التظاهرات المصطنعة خيار بديل من السماح بحرية التعبير، تحسّباً من توسيع دائرة الاحتجاج

ويمكن أن يفسر تحفّظ النظام وعدم التسامح مع التظاهرات، خشية من أن يهدم ذلك جدار الرهبة من العمل السياسي، الذي كرّسه طوال عقد، ورؤية تعتبر فتح باب الاحتجاج درباً من الفوضى عالي التكاليف، لذا لا يريد النظام أي حراك قد يمسّ الاستقرار السياسي، ويعتمد عوضاً من ذلك على نمط التعبئة السلطوية والتظاهرات المصطنعة، ويكررها خارج إطار المدن والميادين، في رفح والعريش، وإن كان صحيحاً أن هناك رمزية للمكانين، لكن أيضاً هناك حرص أن تبتعد التظاهرات كلّما أمكن عن كتل شعبية، وميادين شهدت احتجاجات سابقة خلال ثورة يناير (2011)، كما تبرز فرضية أن النظام لا يرى أن هناك قوى من المعارضة يمكن أن يتلاقى معها في فاعليات لا تخرج عن أهدافها، وأن يكون خطابها منضبطاً في الشارع.
وإجمالاً، تأتي التظاهرات المصطنعة خياراً بديلاً من السماح بحرية التعبير، تحسّباً من توسيع دائرة الاحتجاج، من حيث أعداد المشاركين، وتنوّع مطالبهم حول القضية الفلسطينية، أو غيرها من القضايا، ما يؤشّر على علاقة الدولة والسلطة بالمجتمع، والتخوّف من الاحتجاج حتى في قضايا خارجية. وبالنهاية تظلّ التظاهرات المصطنعة عملية محاكاة ناقصة في مصداقيتها، لا تفي بأغراضها، ولا حتى تحتوي الغضب، بقدر ما هي حشد يقوده (ويموّله) أنصار النظام لأغراض إظهار الولاء السياسي، واستثماره لمصالحهم، وهؤلاء لم يُسمَع لهم خطاب يعالج ما تواجهه مصر من تحدّيات حقيقية ومتنوعة، بناء على تداعيات الحرب، وتوسّع أطماع الاحتلال، ورغبته في فرض نفوذه على المنطقة العربية كلّما أمكن، وبعدّة أساليب، مرّات بالحرب، وأخرى باسم التعاون والسلام.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".