اجتياح جنين: تفكيك المخيم وإعادة تعريف العلاقة الاستعمارية

24 فبراير 2025
يسعى الاحتلال إلى تحويل مخيم جنين منطقة غير صالحة للعيش 13/2/2025 (عصام الريماوي/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في يناير 2023، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية في جنين، مستهدفًا إعادة تشكيل المخيمات الفلسطينية وتحويل جنين إلى "غزة الصغرى" في الضفة الغربية، مما أدى إلى سقوط شهداء وتدمير البنية التحتية.

- تبنت إسرائيل رؤية دولية لتقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين في شمال الضفة، لكن تراجعت هذه التسهيلات وعادت سياسة العقوبات، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

- تهدف إسرائيل إلى تقويض السلطة الفلسطينية عبر تعزيز الإدارة المدنية المباشرة، مما يهدد مستقبل السلطة ويعزز السيطرة الإسرائيلية.

في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي؛ شن جيش الاحتلال الإسرائيلي حملةً عسكريةً واسعةً على جنين، أعلن أنّها شرارة عمليةٍ عسكريةٍ واسعةٍ في الضفّة الغربية، بالتركيز على شمالها. ومنذ اللحظات الأولى للعملية، التي جاءت على نمط اقتحامٍ سريعٍ وصادمٍ في وضح النهار، ومع اكتظاظ الأسواق، كان واضحاً أنّنا أمام نمطٍ عسكريٍ مختلفٍ وغير مسبوقٍ، فتحت قوات الاحتلال فيها النيران بكلّ مكانٍ، وأودت بعشرة شهداءٍ في ساعات الاقتحام الأولى. لم يكن توظيف فائض القوّة هذا عشوائيًا، بل كان مدروسًا ضمن العملية الواسعة التي انطلقت من جنين إلى الضفّة الغربية بشكلٍ متسارعٍ، والتي يبدو أنها تجاوزت ما أعلن من أهدافها.

في الخلفية: لماذا جنين؟

مع تراجع وتيرة انتفاضة الأقصى (2000-2005)، تصاعدت رؤيةٌ قدمتها الرباعية الدولية، ووجدت موقعها في أروقة السياسة الإسرائيلية، مفادها الانتقال من منظومة القمع الشامل، التي كانت ذروتها عملية اجتياح الضفّة عام 2002، والتي سميت إسرائيليًا بـ"السور الواقي"، إلى منظومة تسهيلاتٍ في الضفّة الغربية، وتحديدًا في شمالها، الذي كان مركز الانتفاضة.

تمثّلت الفلسفة الدولية، والإسرائيلية أيضًا، بإعطاء الفلسطينيين ما يجعلهم يخشون خسارته، وهنا الحديث عن مكاسب اقتصاديةٍ، وامتيازات حركةٍ وغيرها. مع عام 2008، اختيرت جنين لتكون نموذج التسهيلات، وفق وثيقةٍ تفصيليةٍ ترمي لاختبار السياسات في جنين، حينها جاءت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كونداليزا رايس إلى المدينة، معلنةً دعم هذا النموذج في جنين لتنتقل من حالة "الإرهاب" إلى مركز الانتعاش والاستقرار السياسي ونموذجًا لهما.

يجب قراءة مخيّم جنين على اعتباره نقطة اختبارٍ أولى لهذه السياسة الاستعمارية، التي تهدف بوضوحٍ إلى إعادة إنتاج المخيّم وفق قواعد "مدينية"

تراكم هذا النموذج، ومركزه "معبر" الجلمة، الذي كان يسمح بتبادلٍ تجاريٍ بين جنين والداخل، أنعش السوق المحلي، إلى أن انكمش في السنوات الأخيرة، مدفوعًا بالعودة من "الامتيازات" إلى "العقوبات"، ومع انتصاف عام 2023، أُغلق "المعبر"، وأعملت الـD9  ذراعها في شوارع المدينة والمخيم بطريقةٍ غير مسبوقةٍ.

ما برز بعد يونيو/حزيران 2023، أنّ إسرائيل عادت إلى اعتبار جنين غزة الصغرى، كما وصفت كثيرًا في الإعلام الإسرائيلي، وموقع اختبارٍ من نوعٍ آخر في الضفّة الغربية، حيث تتفحص الإجراءات القمعية التدميرية، التي تقوم على "العقاب" بالصدمة، وتدمير مقومات الحياة، وتعظيم الثمن. لذا أعيدت الجرافات المجنزرة والمدولبة إلى الخدمة، للمرّة الأولى بعد الانتفاضة، واستخدم الطيران المسير، ومن ثم الحربي، وأجبرَ حوالي 3000 مواطنٍ على ترك منازلهم في المخيّم، خلال اجتياحه في يوليو/تموز 2023.

خلال الحرب على قطاع غزّة، استمر جيش الاحتلال الإسرائيلي بتصعيد الضغط على جنين ومخيّمها وريفها، عبر إجراءات الإغلاق الشامل، والاقتحامات المتكررة، وتدمير البنية التحتية، والاستهداف المركز الهادف لإنهاك المؤسسات والمجتمع. ثمّ من جنين مختبر هذه السياسات، تدحرج النموذج إلى مناطق عدّة في شمال الضفّة الغربية، أبرزها طولكرم ومخيّميها، وطوباس ومخيّمها.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

في مقابل هذه الحالة، تحول مخيم جنين إلى حالةٍ ملهمةٍ انتشرت في الضفّة، ونقلت معها هوية المخيّم وبرنامجه المقاوم، وحتّى تكتيكاته، كما بدأت حالة المقاومة في الضفّة تنتقل من الحالة الفردية إلى شبه المنظّمة، فبرزت في العديد من المخيّمات والقرى "كتائبُ" تحمل اسم المكان نفسه غالبًا.

السور الحديدي: شطب المخيّم يبدأ من جنين

كان لافتًا اختيار تل أبيب اسم السور الحديدي لاجتياح جنين الواسع ومخيّمها، جامعة بين ذاكرة السور الواقي، وهو اسم عملية اجتياح الضفّة الغربية عام 2002، والسيوف الحديدية، وهو الاسم الإسرائيلي للعدوان على قطاع غزّة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي مباشرةً إلى إدخال آلياته الثقيلة، التي شملت جرافات من طرازي D9  وD10، إلى جانب سيل من المسيرات والطائرات المروحية.

مع وصول وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى جنين، قال إنّ "مخيّم جنين لن يعود كما كان من قبل"، كما أنّ جيشه "سيبقى في المخيّم"، رافق هذه التصريحات إخلاء المخيّم من جميع أهله، وتدمير عشرات المنازل بطريقةٍ وصفها رئيس بلدية جنين بالهندسي المدروس. رمى التدمير الهندسي المدروس، وفق المؤشرات الأولية، إلى تحقيق هدفين واضحين: الأول تحويل أزقة المخيّم إلى شوارع تسهل حركة الآليات العسكرية دومًا، وضرب التلاصق بين البيوت، الذي يسمح بتنقل المقاومين عبر فتحات بين الجدران، أما الثاني فهو تحويل المخيّم إلى حيٍ من أحياء المدينة، ابتداءً من شطب "الأونروا" ودورها، ومن ثمّ خلق بيئةٍ طاردةٍ في المخيّم، انتهت بالتهجير القسري، وصولاً إلى التدمير ومنع إعادة الإعمار، وبالتالي خفض الكثافة السكانية في المخيّم، الذي لا تتجاوز مساحته نصف كيلومتر، إلى حدها الأدنى، ليصبح من أحياء المدينة.

واقع الأمر أن السلطة تفقد كل يوم شيئًا من قدرتها على الحضور في الشارع، وممارسة عملها إطارًا حكوميًا ناضجًا، خصوصًا على مستوى الإسناد، وتعزيز صمود المواطن

بهذا، تعيد إسرائيل محاولات تحويل المخيّم إلى نطاقٍ مفتوحٍ، وخلال الأيام الفائتة، قامت قوات الاحتلال بتفجير منازل على مسارات هذه الشوارع، وستحاول الإبقاء على هذه الشوارع حدودًا للعمران. المعضلة أن الواقع الفلسطيني الهش يفسح المجال لتنفيذ هذه الرؤية، ويعلق مصير خمسة عشر ألف فلسطينيًا في الهواء. إلى جانب ذلك، فإن نجاح هذه التجربة في جنين، يعني الاستمرار بنقلها من مخيّمٍ إلى آخر، بهدفٍ واضحٍ هو تفكيك المخيّمات.

من هنا، يجب قراءة مخيّم جنين على اعتباره نقطة اختبارٍ أولى لهذه السياسة الاستعمارية، التي تهدف بوضوحٍ إلى إعادة إنتاج المخيّم وفق قواعد "مدينية". إذ كان أكثر ما أزعج المنظومتين الأمنية والعسكرية في إسرائيل، خلال السنوات الأربع الأخيرة، هو عودة مخيّم جنين، كما العديد من المخيّمات، إلى نطاقٍ ضيقٍ حصينٍ، خصوصًا بعض أحيائه، مثل "حارة الدمج". هذه الحصانة، التي أخذت زخمًا بعد "نفق الحرية"، تعد نقيضًا صارخًا للاستراتيجية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، التي تقوم على الاستباحة، والقدرة على الوصول إلى الفلسطيني في أيّ مكانٍ وزمانٍ، من دون أيّ شكلٍ من أشكال الحصانة.

إنّ ضرب مخيّم جنين، يحمل إلى جانب فكرة استهداف النطاق الحصين فكرة وهدف استهداف الرمزية، التي راكمها المخيّم في الحالة الفلسطينية، وحتّى في الوعي الإسرائيلي، الذي يصف جنين بـ "غزّة الصغرى".

أهدافٌ تتصاعد

مع تجاوز العملية العسكرية في جنين شهرها الأول، بدا واضحًا أنّ العملية قد تجاوزت نطاق الاستهداف الأساسي في المخيّم، ووصلت إلى اختبار إمكانيات إعادة إنتاج العلاقة مع جنين على اعتبارها منطقة، إذ حاول الاحتلال تطبيع وجوده المادي على الأرض، مع استئناف الفلسطينيين في المدينة، وسوقها التجاري، جزءًا من حياتهم الطبيعية، والتواصل مع المؤسسات المحلية من أجل الطلب بفتح المحال التجاري، والاعتياد على تحرك دوريات الاحتلال في المكان. 

بما يتجاوز ذلك، حاولت الإدارة المدنية التنسيق مع المؤسسات المحلية، من أجل خلق اتصالٍ مباشرٍ يتجاوز السلطة الفلسطينية، ومؤسساتها الرسمية، وذلك بغرض تنظيم الشأن العام، وترميم البنية التحتية بتمويلٍ إسرائيليٍ مباشرٍ من الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى إسرائيل. كما بدأت الأنباء الواردة من مصادر في جيش الاحتلال الإسرائيلي تشير إلى وجودٍ طويل الأمد في المدينة والمخيّم، وإقامة نقاط استجابةٍ عسكريةٍ سريعةٍ فيهما.

لا يمكن عزل هذا المشهد عن برامج إسرائيلية ورؤىً سابقةٍ، تجد رواجًا في أروقة الحكم الحالية، تقوم على قضم ما تبقى من السلطة الفلسطينية، والإبقاء عليها هيكلًا هشًا، واستعادة زمام السيطرة العسكرية، وحتّى المدنية في معظم الضفّة الغربية، وتحويل العلاقة مع الفلسطينيين إلى علاقةٍ لا مركزيةٍ مباشرةٍ، مرجعيتها "الإدارة المدنية"، وعنوانها الفلسطيني المجالس البلدية. هذا جوهر خطة الحسم، التي قدمها بتسلئيل سموتريتش، التي تقوم على إنهاء كلّ النوافذ السياسية، والفرص المتصلة بالحصول على دولةٍ فلسطينيةٍ، وإعطاء الفلسطينيين مساحةً في إدارة حياتهم اليومية، وملاحقة كلّ من يرفض ذلك.

أي مستقبلٍ للسلطة الفلسطينية؟ 

إن نجاح الاحتلال في جنين، يعني استعداد تل أبيب لبناء مشروعها السياسي في الضفّة الغربية على مقارباتٍ جديدةٍ، أساسها خدميٌ اقتصاديٌ، ما يتطلب دفع السلطة الفلسطينية إلى الانكماش، وإذابتها بطريقةٍ متصاعدةٍ، مقابل توسع نموذج جنين توسعًا مدروسًا ومتدرجًا، من دون مغامراتٍ أمنيةٍ، أو توسعٍ مكلفٍ.

تمثّلت الفلسفة الدولية، والإسرائيلية أيضًا، بإعطاء الفلسطينيين ما يجعلهم يخشون خسارته، وهنا الحديث عن مكاسب اقتصاديةٍ، وامتيازات حركةٍ وغيرها

اللافت أنّ هذا التغيير الجذري في العلاقة مع الأرض المحتلة في الضفّة الغربية، الذي أخذ زخمًا إضافيًا مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من جديدٍ، ترافقه هشاشةً فلسطينيةً غير مسبوقةٍ، على مستوى التكوينات، والمؤسسات السياسية جميعها، إذ غابت خطط المواجهة والإسناد من قبل منظّمة التحرير، والحكومة الفلسطينية، والفصائل الفلسطينية كاملةً، ولم يجد خمسة عشر ألف فلسطينيًا هجروا قسريًا من المخيّم إلا المجتمع المحلي لإسنادهم، والوقوف معهم في محنتهم، حالهم حال جميع النازحين من مخيّمي طولكرم والفارعة. فبعيدًا عن غياب الرؤية السياسية المواجهة للمشروع الإسرائيلي شديد الوضوح، وهو غيابٌ لم يعد من المفيد الحديث عنه بعد خمسة عشر شهرًا، لم تستطع الحكومة بناء خطةٍ وبرنامج لإدارة الأزمة والاستجابة الطارئة، ولم تفعل الفصائل لجان العمل المشترك لحماية السياق العام، ما يفسر تواصل الاحتلال المباشر مع المؤسسات المحلية، محاولًا البحث عن منافذ في ظلّ هذا الفراغ، ما يزيد الخشية من التبعات إذا حاولت إسرائيل تهجير مناطق محددة بالضفة تهجيرًا واسعًا وتطهيرها عرقيًا.

إن كان الاحتلال يقوم بإجراءات تدمير نطاقات عمل السلطة، الضيقة أصلًا، على الأرض في جنين، وشمال الضفّة، عبر هذه العملية، فإنّه بالموازاة معها، يصعد إجراءاته التي تفضي إلى انكماش إيراداتها، سواء كان هذا من خلال اقتطاعات المقاصة، بدواعي تحويل الأموال إلى قطاع غزّة، أو لصرف رواتب المناضلين الفلسطينيين وأسرهم، أو باقتطاعاتٍ لصالح "تعويض" إسرائيليين تعرضوا لعملياتٍ من الفصائل الفلسطينية، أو حتّى بإجراءات الإغلاق الاقتصادي، المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.

واقع الأمر أن السلطة تفقد كل يوم شيئًا من قدرتها على الحضور في الشارع، وممارسة عملها إطارًا حكوميًا ناضجًا، خصوصًا على مستوى الإسناد، وتعزيز صمود المواطن، ولن تفيدها كلّ "استجاباتها"، التي كان آخرها شطب قوانين الأسرى، بل يراد لها أنّ تصبح ما يشبه حالة "حكومة عموم فلسطين"، شكلًا تمثيليًا رمزيًا على رقعةٍ من تراب الوطن، والخطير أنّ شطبها منوطٌ بقرار الاحتلال السماح بمنعها من العمل.

من هنا، فإنّ نجاح إسرائيل في الوصول إلى معادلةٍ تقوم فيها أجسامٌ محليةٌ بإدارة الحياة اليومية في المدن المركزية في الضفّة، سيقود بالضرورة إلى تقويض ما تبقى من السلطة، خصوصًا في ظلّ بنية الإدارة الأميركية الحالية، المساندة بقوّةٍ لإلغاء الضفّة الغربية كاملةً، لصالح "يهودا والسامرة"، وهذا ما يمتد إلى قطاع غزّة، الذي ينتظر مصيره، الذي ستقرره التفاعلات الإقليمية - الأميركية، والتي يغيب عنها الفلسطيني لاعبًا، أو حتّى ممارسًا لحقّ الفيتو.

بكثيرٍ من التكرار، أصبحت وصفة الخروج من المأزق الفلسطيني شديدة الوضوح، تتمثّل في ترميم البناء الوطني، عبر مسار إنقاذٍ، ووحدةٍ مصيريةٍ، أولى أولويّاتها إعداد خطة إنقاذٍ وطنيةٍ تعمل على مسارين: تعزيز الصمود في الضفّة والقطاع، وتقديم الرؤية الوطنية الجامعة للمسار السياسي المتفق عليه. إن عدم الاستثمار الملح بالمسارين، سيقود إلى ملء هذا الفراغ إما بوكلاءٍ داخليين، أو بلاعبين إقليميين، وفي كلّ الأحوال سيكون الخاسر الأكبر هو الشعب الفلسطيني.