التوتر بين مؤسستي الاحتلال الإسرائيلي العسكرية والسياسية: الأبعاد والأسباب والتداعيات المحتملة
استمع إلى الملخص
- شهدت علاقة الجيش بالدولة تحولات بعد اتفاق أوسلو، مع تزايد نفوذ الصهيونية الدينية في الجيش، خاصة بعد إخلاء غزة، مما أدى إلى انضمام أتباعها للوحدات العسكرية.
- عودة نتنياهو للحكم في 2009 أدت إلى توترات بين الحكومة والجيش، خاصة بعد حكومته في 2022، مما أثار احتجاجات وتوترات داخلية، وتفاقمت بعد أحداث أكتوبر 2023.
بعد إعلان إقامة دولة إسرائيل، في عام 1948، أعلن رئيس حكومة إسرائيل الأول، ديفيد بن غوريون، حلّ العصابات والمليشيات الصهيونية المسلحة، وإقامة الجيش الإسرائيلي، وحصر السلاح في يد الجيش الإسرائيلي فقط، وأنيطت به مجموعةٌ من المسؤوليات والمهام، التي ستؤدي لأن يصبح الجيش والمؤسسات الأمنية بمثابة المنظومة المركزية الجامعة في إسرائيل.
من المهام التي انيطت بجيش الاحتلال الإسرائيلي ما أطلق عليه في حينه بـ"فرن الصهر"، الذي يعني أن على الجيش الإسرائيلي إنتاج الإسرائيلي الجديد، بعد إدخال كلّ أفراد المجتمع الإسرائيلي إليه، من كلّ الإثنيات والثقافات لينتج الإسرائيلي الجديد، كما حُمل الجيش مهامٍّ وظيفيةٍ أخرى، منها إلزام الجنود دوريًا بمساعدة المزارعين الإسرائيليين في أعمال الزراعة والفلاحة، ومساعدة وزارة التعليم الإسرائيلية عبر تكليف جنودٍ بالقيام بتعليم الطلبة في المدارس، ومساعدة الإسرائيليين في أعمال البناء، وكان وزير جيش الاحتلال موشي ديان قد قال جملته الشهيرة آنذاك، التي تربط حياة الإسرائيليين كلّهم ومستقبلهم بالجيش والأمن، حين قال "لن نتمكن من حماية أمننا، ولا من غرس شتلةٍ، ولا من بناء طوبةٍ، ولا من تعليم طالبٍ، من دون البدلة العسكرية".
أدى الانتصار الكبير، الذي حققه الجيش الإسرائيلي على الجيوش العربية عام 1967، واحتلال آلاف الكيلومترات الجديدة من أراضي مصر وفلسطين والأردن وسورية، إلى تعزيز مكانة الجيش، والجندي الإسرائيلي، إذ سمّيَ الجيش والأمن بالبقرة المقدسة، التي يحرم انتقادها، الجيش والأمن، في مقابل السماح بانتقاد كلّ شيءٍ آخر، ثمّ تعمقت مكانة الجندي بالوعي الإسرائيلي، حتّى تسابقت الشركات الإسرائيلية، والمؤسسات الكبرى على توظيف الضباط الكبار المتقاعدين من الجيش، وذلك لكسب المزيد من الزبائن والعملاء، نتيجة انضمام هؤلاء القادة العسكرين إليها.
لم تطاول تداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، أو مكانة إسرائيل في المنطقة، بل طاولت الوضع الداخلي للمنظومة السياسية والأمنية في إسرائيل
مثّل اتّفاق أوسلو محطةً مفصليةً في علاقة الجيش بالدولة والمجتمع، إذ بدأت تتراجع مكانة الجيش ودوره في المجتمع الإسرائيلي، إذ أدى اتّفاق أوسلو، وانسحاب إسرائيل من بعض المناطق في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، بقيادة رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، الجنرال العسكري إسحاق رابين، إلى انتقاداتٍ عنيفةٍ من قبل تيار الصهيونية الدينية، الذي لم يكن بقوته الحالية، وقد انتهت تلك الانتقادات باغتيال رئيس الوزراء رابين، الذي مثّل في حينه أركان الدولة العميقة في إسرائيل، إذ جمع ما بين الجانب السياسي والعسكري والخلفية الأثنية الغربية. في السياق ذاته؛ أدى ذلك إلى قيام حاخامات الصهيونية الدينية بإقناع منتميي التيار الديني الصهيوني بالانضمام إلى الجيش، لمنع أي انسحابٍ مستقبلًا ممّا يسمى "أرض إسرائيل"، خاصّةً أنّ الجيش الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية في حينها دعموا توصل المستوى السياسي إلى اتّفاقية أوسلو مع منظّمة التحرير الفلسطينية، وفي المقابل أيقن اليهود الغربيون، الذين كانوا يشكلون القيادة السياسية والعسكرية، أن تداعيات اتّفاقية أوسلو ستؤثر سلبًا على مكانة الضابط والجندي، إذ بدأت شريحةٌ من اليهود الغربيين بترك الخدمة العسكرية الدائمة، والذهاب إلى التعليم، خصوصًا التخصصات الطبية والهندسية والأكاديمية، ما ساهم في انضمام عشرات الآلاف من أبناء الصهيونية الدينية للجيش، وتحديدًا للوحدات القتالية، ما أدى إلى تدرجهم حتّى بدأ الكثيرون منهم يتبوؤون مواقع مهمة في الكتائب والوحدات العسكرية المختلفة.
الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقرار رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، العسكري الغربي آرييل شارون، أدى إخلاء قطاع غزّة من الجيش والمستوطنين إلى تعميق الأزمة بين تيار الصهيونية الدينية والجيش الإسرائيلي، وقد صدرت في حينه مجموعةٌ من البيانات والدعوات التي تدعو الجنود إلى رفض تنفيذ قرار الجيش والحكومة بإخلاء المستوطنين من غزّة، وقد استمرت بعدها عملية انضمام أبناء التيار الديني القومي إلى صفوف الوحدات العسكرية، وفي المقابل وجد أبناء التيار الغربي العلماني فرصهم ليس في المجال الأكاديمي فقط، إنّما في قطاع الهايتك كذلك، الذي بدأ يمثّل المجال الاقتصادي الأهمّ في إسرائيل، ما خدم أبناء الصهيونية الدينية، وساعدهم على التغلغل أكثر فأكثر في هياكل الجيش الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية الأخرى، حتى وصل الأمر إلى انضمام مجموعةٍ من أبناء الصهيونية الدينية الذين يرتدون قبعة المستوطنين المنسوجة، التي ترمز إلى ما يسمى "أرض إسرائيل"، ووصولهم إلى هيئة الأركان وقيادة الأجهزة الأمنية، الأمر الذي مثّل تطورًا هامًا في تاريخ الجيش الإسرائيلي.
مع عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة عام 2009، بدأت مؤشرات الأزمة المتجددة بين المستوى السياسي، الذي يمثله نتنياهو وشركاؤه في اليمين، من جهة، والمؤسستين العسكرية والأمنية من جهةٍ أخرى، خصوصًا أن سبب سقوط نتنياهو في انتخابات 1999، كان خلفية منافسيه العسكرية، إيهود باراك والجنرال أمنون ليفكن شاحك من حزب الوسط.
عمل نتنياهو طيلة فترة رئاسته على السيطرة على مفاصل القرار السياسي كلّها، بما فيه وزارة الجيش، وقد وصل به الأمر في عام 2016 إلى استبدال وزير الجيش الإسرائيلي موشيه بوغي يعالون، ذو الخبرة والخلفية العسكرية الكبيرة، بالوزير أفيغدور ليبرمان، الذي لا يملك أي خلفيةٍ وخبرةٍ عسكريةٍ.
ضمت حكومة نتنياهو الحالية، التي شكلت في نهاية 2022، غلاة اليمين الديني الفاشي، من المنتمين إلى حزب الليكود وحزب الصهيونية الدينية، بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وحزب العظمة اليهودية، بزعامة الوزير الفاشي إيتمار بن غفير، المتهم من قبل أجهزة الأمن والشرطة الإسرائيلية بأكثر من ثمانين مخالفةً ولائحة اتهامٍ، والذي أصبح وزيرًا لما يسمى "الأمن القومي الإسرائيلي"، بعد أن كان مراقبًا من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية، نظرًا إلى ما يشكله من تهديدٍ وخطرٍ على الإسرائيليين، كما على الفلسطينيين، وقد ضمت حكومة نتنياهو الحالية كذلك الأحزاب الدينية المتزمتة (الحريديم).
مع تسلم حكومة نتنياهو الحالية أعمالها في بداية العام 2023؛ بدأت بالانقضاض على مؤسسات الدولة القديمة كلّها، من الجهاز القضائي إلى الجهاز الأكاديمي، وليس انتهاءً بالجيش والمؤسسة العسكرية، في ما سمّيَ من قبل أكثر من ثلثي الشارع الإسرائيلي بالانقلاب على منظومة إسرائيل القيمية والقضائية، إذ تريد الحكومة الحالية تغيير هوية إسرائيل، من دولةٍ يهوديةٍ ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ، كما أرادها مؤسسوها الأوائل، بن غوريون وهرتزل، وباقي قادة إسرائيل السابقين، وتحويلها إلى دولةٍ يهوديةٍ قوميةٍ شرعيةٍ تتبنى مواقف قوميةٍ متطرفةٍ تجاه كل من هو فلسطيني وعربي، كما تتبنى مواقف يمينيةٍ محافظةٍ ضدّ أغلبية المجتمع اليهودي المؤمنون بالقيم العلمانية والليبرالية، الذين يتمركزون في تل أبيب والوسط، والمنطقة التي تسمى "غوش دان"، وتنتمي أغلبيتهم الساحقة إلى شريحة اليهود الغربيين، وقد اندلعت تظاهراتٌ وأعمال احتجاجٍ واسعةٌ في إسرائيل احتجاجًا على مشروع الانقلاب الذي تقوم به حكومة نتنياهو الحالية، حينها انضمت شرائح واسعةٌ إلى لتظاهرات العارمة، التي شارك فيها مئات الألوف من الإسرائيليين، وكان في مقدمتهم مئات القادة العسكريين السابقين، الذين وصلت بهم الأمور إلى دعوة جيش الاحتياط لعدم الامتثال للتجنيد، ردًا على ممارسات الحكومة الحالية، وقد لبى الآلاف دعوتهم، من الجنود والطيارين الاحتياط، كما نشروا عرائض تؤكد أنّهم لن يلبوا طلبات الاستدعاء للخدمة العسكرية إن لم تتوقف الحكومة عن قراراتها التي تشكل انقلابًا على إسرائيل وتسيد نتنياهو دكتاتورًا، وقد انزاح وزير الجيش الإسرائيلي المُقال، يوآف غالانت، والمنتمي إلى حزب الليكود، لصالح معارضي قرارات الحكومة، ما دفع نتنياهو إلى إقالته من وزارة الجيش، الأمر الذي أدى إلى زيادة حدّة الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي ضدّ قرار إقالة غالانت، لذا ونظرًا إلى خوف نتنياهو من سقوط الحكومة نتيجة التصدعات داخل حزب الليكود، تراجع عن قرار الإقالة معيدًا غالانت إلى وزارة الجيش.
سمّيَ الجيش والأمن بالبقرة المقدسة، التي يحرم انتقادها، الجيش والأمن، في مقابل السماح بانتقاد كلّ شيءٍ آخر، ثمّ تعمقت مكانة الجندي بالوعي الإسرائيلي
لم تطاول تداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، أو مكانة إسرائيل في المنطقة، بل طاولت الوضع الداخلي للمنظومة السياسية والأمنية في إسرائيل، إذ بدأ تراشق الاتهامات منذ اللحظة الأولى بين نتنياهو وشركائه السياسيين من جهةٍ، وبين الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى من جهةٍ أخرى، على من يتحمل مسؤولية الفشل والإخفاق في السابع من أكتوبر، وقد وصل الأمر إلى نشر بعض المقربين من نتنياهو، سواء زوجته أو ابنه أو من المحيطين به، على مواقع التواصل الاجتماعي منشوراتٍ تتهم الجيش، وجهاز الشاباك بالتآمر مع حركة حماس لإنجاح عملية السابع من أكتوبر، بغرض تحميل المسؤولية لنتنياهو، وتدفيعه ثمنها، في المقابل صدرت الكثير من التصريحات عن مقربين وضباط سابقين اتهموا نتنياهو بأنه هو الذي أوجد الأرضية لاختيار حركة حماس توقيت العملية، كما صدرت الكثير من التصريحات عن أن المستوى العسكري والأمني كان قد حذر المستوى السياسي من أنّ حركة حماس تخطط لشيءٍ ما قد يكون كبيرًا، وجزءًا من تلك التحذيرات رفعت في ليلية "طوفان الأقصى" ذاتها من دون أن تجد آذنًا مصغيةً لدى المستوى السياسي، مع أنّ هذا لا يمكن أن يعفي الجيش والشاباك والاستخبارات من مسؤوليتهم إلّا أنّه يحمل أيضًا المستوى السياسي جزءًا من المسؤولية، وتحديدًا رئيس الحكومة نتنياهو، كونه يرأس الحكومة الأمنية والسياسية.
شهدت أسابيع العدوان الحالي الأولى على قطاع غزّة حالة انسجامٍ بين المستويات العسكرية والأمنية والسياسية، بسبب حالة الصدمة التي أوجدها "طوفان الأقصى"، لكن سرعان ما بدأت العلاقة تتوتر من جديدٍ بين الطرفين السياسي والعسكري، حين شككت قيادة الجيش والأجهزة الأمنية في قدرة الجيش على تحقيق الأهداف الإسرائيلية التي حددها المستوى السياسي، المتمثلة بالقضاء على حركة حماس، وإعادة الأسرى، وتحويل غزّة إلى منطقةٍ لا تشكل تهديدًا لإسرائيل، إذ أدركت القيادة العسكرية والأمنية أنه لا يمكن الجمع بين هدفي القضاء على حركة حماس وإعادة الأسرى، في حين رفض نتنياهو، وشركاؤه في الحكومة، ملاحظات وتحفظات المستوى العسكري والأمني، وأصروا على الأهداف المعلنة، إذ كان واضحًا أن نتنياهو وشركاءه قد تخلوا عن موضوع الأسرى، وباتوا يستخدمون الحرب على غزّة من أجل تهجير سكانها وإعادة احتلالها كاملةً، وبناء المستوطنات فيها انسجامًا مع برنامج الصهيونية الدينية، بزعامة بتسلئيل سموتريتش، ومجموعات من الليكود، الذين أعلنوا عن ذلك قبل السابع من أكتوبر بفترةٍ طويلةٍ، وهذا ما ترفضه قيادة الجيش، التي تقول أنّها لم تضحي بمئات الضباط والجنود من أجل إعادة الاستيطان في غزّة، ما أدى إلى وضع نتنياهو لشروطٍ قاسيةٍ لمنع التوصل إلى صفقةٍ، ما دفع الجيش إلى التحفظ أكثر فأكثر، حتّى وصل الأمر إلى أن يقول الناطق بلسانه، دانيال هاغاري، أثناء مؤتمرٍ صحافي ٍ إن "حركة حماس فكرة، وحالة شعبية لا يمكن القضاء عليها"، المقصود هنا أنّ إصرار نتنياهو والمستوى السياسي على التمسك بتلك الأهداف، مع قناعته باستحالة تحقيقها لإظهار الجيش أمام المجتمع الإسرائيلي بالمظهر الضعيف، وغير القادر على تحقيق الانتصار، ما دفع نتنياهو إلى الرد عليه بأنّ "إسرائيل دولةٌ لها جيشٌ، وليست جيشًا له دولةً، وعلى الجيش تنفيذ أهداف المستوى السياسي".
من تداعيات الحرب الحالية النقص الكبير في عدد الجنود، ما دفع القيادة العسكرية إلى الانسجام مع مواقف المعارضة في إسرائيل حول ضرورة إلزام الحرديم بالتجنيد، وقد أيد وزير الجيش الإسرائيلي هذا المطلب، وظهر أنّه على خلافٍ مع رئيس الحكومة، ومع أركان الحكومة، ومتبنيًا لموقف النخبة العسكرية، ما دفع نتنياهو إلى إقالته وتعيين "يسرائيل كاتس"، عديم الخبرة والخلفية العسكرية، وزيرًا للجيش وذلك من أجل إضعاف القيادة العسكرية، وتغييرها بضباطٍ من اتباع الفكر اليميني الديني، وهوا ما دفع قادة الأجهزة الأمنية إلى عدم التقدم باستقالاتهم، عقب اخفاق السابع من أكتوبر، لعدم تمكين كلٍّ من نتنياهو وسموتريتش وبن غفير باستبدالهم بضباط من الصهيونية الدينية، والسيطرة على الجيش، وتحويله من جيش الدولة والشعب إلى مليشيا وذراع عسكرية بيد الصهيونية الدينية، لإدامة الحروب، وعدم الاستقرار، إذ اثبتت تجارب الماضي أنّ الحروب تصب في صالح التيارات اليمينية المتطرفة، وتضعف التيارات السياسية العلمانية المعتدلة.