استمع إلى الملخص
- رغم تحقيق وحدة الجبهات بين فصائل المقاومة، إلا أن النتائج كانت محدودة، حيث تعرض حزب الله لضربات قاسية، ولم تحقق الضربات الإيرانية والحوثية تأثيرًا كبيرًا، مما أدى إلى فشل الرهان على وحدة الجبهات.
- تواجه المقاومة الفلسطينية تحديات مستقبلية مع التغيرات الجديدة، حيث تتجه حماس نحو التفاوض على وقف دائم لإطلاق النار، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الكفاح المسلح وأهمية تحييد قطاع غزة.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرضت حسابات المقاومة المسلحة الفلسطينية ومُعطياتها لعددٍ كبيرٍ نسبيًا من الاختباراتٍ والمحطات. وبقدر ما مثّل "طوفان الأقصى" إنجازًا عسكريًا ضخمًا، وبقدر ما ظهرت كتائب عز الدين القسّام متماسكةً في مطلع العام الحالي، في أثناء عمليات تسليم الأسرى الإسرائيليين، عبر العروض العسكرية المنظّمة والمبرمجة، هناك متغيراتٌ تؤكّد أنّ مرحلة من المقاومة المسلّحة في الضفّة الغربية، وقطاع غزّة، فضلاً عن لبنان، ربّما تشارف على نهاياتها، كذلك هناك واقعٌ طارئٌ جديدٌ يتطلّب، ويفرض تفكيرًا جديدًا في المقاومة، خصوصاً أنّ التفاوض الآن يجري فعلًا حول "وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار".
حسابات "الطوفان"
كانت حسابات المقاومة بعد السابع من أكتوبر، وربّما حسابات أغلب المراقبين الفلسطينيين والعرب، من إعلاميين ومحللين، أنّ هناك هدفين أساسيين يجدر التوحد لتحقيقهما في الأسابيع الأولى بعد العملية، هما، "كيف نوقف الحرب ونقصّرها"، و"استثمار الحرب أو العملية، وترجمتها إلى منجزٍ سياسيٍ"، سواءً على صعيد مجمل القضية الفلسطينية، أو على واقع قطاع غزّة.
كانت هناك مجموعة مقولاتٌ وحساباتٌ عسكريةٌ واستراتيجيةٌ سادت المنطق المعلن من قبل المقاومة، والمحللين المرتبطين بخطها السياسي، أو الملتحقين بهذا الخط، يمكن تلخيصها بخمس مقولاتٍ أساسية، أولًا، قواعد الاشتباك والحرب الإسرائيلية، وثانيًا، فرضية وحدة الجبهات (التوريط الواعي)، وثالثًا، موضوع "وحدة الساحات"، ورابعًا، فكرة الفوز بالنقاط لا بالضربة القاضية، وخامسًا، مقولة "الثمن الإنساني" لحرب التحرير.
لكن لم تؤدِ وحدة الجبهات، على الرغم من تحققها فعلاً حتى الربع الأخير من العام 2024، إلى النتائج المرجوة منها
1- قواعد الاشتباك الإسرائيلية
بنيت الحرب استنادًا إلى قراءةٍ معينةٍ لقواعد العمل الإسرائيلية، اتّضح أنّ غالبيتها، إن لم يكن جميعها خاطئٌ. أولى هذه القواعد، أنّ إسرائيل لا تستطيع دخول حربٍ طويلة الأمد، لذا تسعى لحروبٍ سريعةٍ، لكون مجتمعها واقتصادها غير جاهزين لحربٍ طويلةٍ. ثانيها، أنّها لا تخوض حروبًٍا متزامنةً، على أكثر من جبهةٍ، بل تنتقل من جبهةٍ إلى أخرى. ثالثها، أنّ الحرب البرية، وهي الأهمّ بحسب العلم العسكري التقليدي، هي نقطة قوّة المقاومة، لذا ستتردد إسرائيل كثيرًا قبل دخول هذه الحرب والتوسع فيها، ورابعًا، أنّ الحرب مع حزب الله في شمال فلسطين ستكون استنزافًا، ولن تتحول إلى مواجهةٍ شاملةٍ أو عملياتٍ بريةٍ.
سقطت هذه الحسابات (القواعد) سريعًا، فقد خاضت إسرائيل حربًا طويلةً، ولم يبرز داخل المجتمع الإسرائيلي احتجاجٌ، أو تعبٌ إلى الدرجة التي تؤثر على سير الحرب، وكانت أهمّ دعوات ومظاهرات وقف الحرب مرتبطةٌ بهدف إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وليس بسبب الإرهاق من الحرب. من جهةٍ ثانيةٍ، كانت تقارير ومعلوماتٌ سابقةٌ للحرب قد ذكرت أنّ إسرائيل تغيّر من بنيتها، كي تخوض حروبًا متزامنةً على جبهات متعددة، في قطاع غزّة والضفّة الغربية ولبنان، وحتّى في مناطق أخرى، وهذا ما تأكّد في الحرب، فهناك إبادةٌ في غزّة، وتدمير مخيّماتٍ، وعملياتٌ متوسعةٌ في الضفّة الغربية، وضربٌ واحتلالٌ وهجماتٌ في لبنان، واستهدافٌ للعمقين اليمني والإيراني.
أمّا الحرب البرية، فإنّ حرب الإبادة، أو عمليات التطهير العرقي من الجو، وبالصواريخ الموجهة عن بعد، والطائرات المسيّرة قد مهدت الطريق للحرب البريّة وللاحتلالات، التي، حتّى لو لم تكن عمليةً سهلةً للاحتلال، وكان لها ثمنٌ، لكنّها حصلت في المحصلة، وأدت إلى تدميرٍ هائلٍ في مختلف المجالات، كذلك اغتيل أبرز قيادات الحركة العسكريين والميدانيين (في غزّة اغتيل محمد الضيف القائد الأول لكتائب عز الدين القسام، ومعه مروان عيسى الذي يعتقد أنه القائد الثاني، ثم رئيس الحركة في القطاع يحيى السنوار).
لم تستمر حرب الاستنزاف بين حزب الله وإسرائيل حربًا للإسناد فقط، بل تمكّنت إسرائيل من تسديد عددٍ من الضربات المفاجئة وغير المفاجئة في لبنان. غير المفاجئة من نوع اغتيال قيادات حركة حماس هناك، مثل قائد الحركة في الضفّة الغربية، وأهمّ قائد عملياتي لها خارج فلسطين، صالح العاروري (2 يناير/كانون الثاني 2024)، وفي إيران اغتيال رئيس "حماس"، إسماعيل هنية (31 يوليو/تموز 2024)، وكان هناك مفاجأةٌ مثل عملية أجهزة اتصال البيجر، التي استهدفت الآلاف من تنظيم حزب الله، (سبتمبر/أيلول 2024)، في انكشافٍ استخباراتيٍ هائل، تبعه اغتيال الأمين العام السابق للحزب، حسن نصرالله (26 سبتمبر 2024)، وقيادات أخرى من الصف الأول، وصولاً إلى توقيع الحزب على اتّفاقيةٍ، بدأت بالنفاذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تتمثّل في أقلّ معانيها خروجًا من المواجهة الراهنة. رغم هذا استمر وجود المقاومة المسلحة في غزّة قوةً سياسيةً وعسكريةً، وهي القوّة الأهمّ فلسطينيًا هناك.
2- الرّهان على وحدة الجبهات
في بداياتها، منتصف الستينيات، راهنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، على أنّ العمل المسلح، سيؤدي إلى ما سمي حينها باسم "التوريط الواعي"، استنادًا إلى أنّ دخول قوىً عربيةٍ إلى المواجهة أمرٌ ممكنٌ ومفيدٌ، لكنه يحتاج إلى من يقوم بإطلاق الطلقة الأولى، أو يفجر صاعق التفجير، وهو رهانٌ سقط مع حرب عام 1967. ورهان المقاومة الفلسطينية على وحدة الجبهات في سياق طوفان الأقصى، ليست بعيدًا عن فكرة التوريط الواعي، استنادًا إلى أن هناك "محور مقاومةٍ" قوامه فصائلٌ فلسطينيةٌ، وحزب الله في لبنان، وإيران، وفصائل وقوىً داعمةٌ، برعايةٍ إيرانيةٍ لوجستيةٍ، وتدريبيةٍ، وماليةٍ، إذ يعود لحزب الله وأمينه العام الراحل حسن نصر الله، الفضل في تطور هذا المفهوم.
والواقع أنّه مع الأيّام الأولى بعد السابع من أكتوبر 2023، نقل الكثير من "المعلومات" والمزاعم، مفادها أنّ هناك تفاهماتٌ واتّفاقياتٌ عملياتيةٌ وغرف عملياتٍ مشتركةٍ للتنسيق بين هذه المجموعات، وتحديدًا حزب الله والمقاومة في غزّة، وعن تصورٍ لكيفية شنّ عملياتٍ متزامنةٍ. (للتفاصيل أنظر ورقة سياسات أعدها قاسم نصير، بعنوان وحدة الساحات أو وحدة الجبهات أو محور المقاومة: بين الشعارات والوقائع، ونشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية).
ما دام الاحتلال موجودًا، ستستمر المقاومة بأنواعها، بما فيها الكفاح المسلّح، لأسبابٍ منها أنّ الاحتلال الإسرائيلي احتلالٌ استيطانيٌ عسكريٌ، لكن في الوقت ذاته هناك سؤالٌ عن شكل هذا الكفاح
بعيدًا عن طموح بعض المراقبين إلى دورٍ أكبر لحزب الله، فإنّ إسهام الحزب كان فاعلًا في المواجهة، فقد فتح جبهة إسنادٍ ممتدةٍ، من جنوب لبنان، أخذت شكل القصف الصاروخي والمناوشات، بل شهدت مقولة وحدة الجبهات تطبيقًا فاق التوقعات، خصوصًا عندما انضمّ الحوثيون من اليمن، وفصائلٌ مسلحةٌ من العراق، واستهدفوا أهدافًا إسرائيليةً وأميركيةً، في البحر الأحمر، وفي فلسطين، وبعض المناطق.
لكن لم تؤدِ وحدة الجبهات، على الرغم من تحققها فعلاً حتى الربع الأخير من العام 2024، إلى النتائج المرجوة منها، فمن جهةٍ؛ تعرض حزب الله لضرباتٍ قاسيةٍ سبقت الإشارة إليها، حتّى وقع حزب الله اتّفاقًا مع إسرائيل في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2024، بموجبه لم يوافق الحزب على وقفٍ "مؤقتٍ" للقتال فقط، بل على بنودٍ دائمةٍ تجعل التسلّح والعمل المسلح في لبنان محصورًا بيد الدولة اللبنانية، بل وافق، بحسب نص الاتّفاق، على "تفكيك كل المنشآت غير المرخصة، التي تعمل في إنتاج الأسلحة وملحقاتها، وكذلك البنية التحتية، والمواقع العسكرية، وستُصادَر الأسلحة غير المرخصة، التي لا تتوافق مع هذه الالتزامات"، بل تضمن الاتّفاق بدء التفاوض على حدودٍ بريةٍ دائمةٍ بين إسرائيل ولبنان. وهذه البنود أشد وضوحًا وترتب التزاماتٍ إضافيةً على الحزب مقارنة بقرار الأمم المتّحدة 1701، الذي أدى إلى وقفٍ كبيرٍ للمواجهة مع إسرائيل من لبنان لمدة 17 عامًا، بين 2006 و2023، كذلك يعاني الحزب من خسائره التي أضعفت موقفه، وهي خسائرٌ بدأت بالتورط في سورية عسكريًا بعد عام 2011، ثمّ عمليات الاغتيال الإسرائيلية المتعددة، واستهداف عناصره بالآلاف، ما يجعل فرص التفافه على الاتّفاق الجديد محدودةً.
لم توقع الضربات الإيرانية الصاروخية خسائر تذكر في الجانب الإسرائيلي (إبريل/نيسان وأكتوبر 2024)، التي كانت ردًا على عمليات اغتيالٍ واستهدافٍ إسرائيليةٍ لأهدافٍ إيرانيةٍ في سورية وإيران، ورغم أهمّية موقف الحوثيين في اليمن، إلّا أنّه لم يرقَ إلى مستوى التأثير الجوهري. كذلك تعرّضت المجموعات المسلّحة في الضفّة الغربية لضرباتٍ كبيرةٍ أضعفت، أو أنهت فرص تطور "جبهةٍ" هناك، وهو ما سيجري التوسع به عند مناقشة أطروحة "وحدة الساحات".
بالمجمل، يمكن القول إنّ الرهان على وحدة جبهات "محور المقاومة" نجح من حيث الفكرة، وفشل من حيث التأثير، والمحصلة شبه النهائية (الحرب لم تنتهِ).
3- وحدة الساحات
تختلف وحدة الساحات عن وحدة الجبهات، من أنّ الثانية تتعلق بالعمل المسلّح شبه النظامي، أمّا الساحات فكان متوقعًا أن ينضم ما يسمى ساحات الضفّة الغربية، والأرض المحتلة عام 1948، وحتّى الشوارع العربية، في أكثر من دولةٍ، في جهدٍ مقاومٍ واسعٍ، يأخذ طابع الانتفاضات الشعبية والجماهيرية، التي تؤثر أيضًا بموقف القيادة السياسية. لم يحدث هذا، وكان التحرك الجماهيري قويًا وذا زخمٍ كبيرٍ في الساحات الغربية الدولية، وفي شوارع عربية، أكثر مما حدث داخل فلسطين ذاتها، وبقي التأثير السياسي الفعلي للإسناد الجماهيري محدوداً.
لا يتسع المقال لتحليل لماذا لم تنتفض الساحات، ولكن إحدى أكبر الثغرات التي برزت في مرحلة بعد السابع من أكتوبر، هي الانقسام السياسي، وإصرار القيادة الفلسطينية الرسمية على الانتظار من دون تفعيل أطر العمل الوطني، وتحديدًا هيئات منظّمة التحرير الفلسطينية، وخصوصًا المجلس الوطني الفلسطيني، أو تنفيذ الاتّفاقيات والتفاهمات في اللقاءات التي جمعت الفصائل الفلسطينية في بكين وموسكو، التي تفترض تحرك الفلسطينيين وفق قيادةٍ موحدةٍ. بل تمترست القيادة الفلسطينية في موقفها المتمثّل في لوم حركة "حماس" على ما حدث بعد السابع من أكتوبر، وعدم وضع استراتيجيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ، ولوم حماس لانفرادها في العمل والقرار والتفاوض، من دون طرح بديلٍ.
كما اعتبرت القيادة أنّ المجموعات المسلّحة في الضفّة الغربية "خارجةً عن القانون"، ومن هذا المنطلق وجهت لها ضرباتٍ (مثل العملية التي سميت حماية وطن، من قبل قوات الأمن الفلسطينية في مخيم جنين في ديسمبر/كانون الأول 2024)، وتراجعت حتّى المقاومة الشعبية، التي كانت السلطة الفلسطينية ترعاها سابقًا، وبرزت في مناطق مثل الخان الأحمر، قرب أريحا، وقرية بيتا قرب نابلس. ومع افتقار الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربية إلى القيادة الموحدة، والرؤية الوطنية الجامعة، ومع تعطل المؤسسات الوطنية (المنظّمة) سادت حالةٌ أقرب إلى الصمت أمام ما يحدث في قطاع غزّة، وأمام الهجمة الإسرائيلية العارمة ضدّ الأسرى والسجون، وضدّ المجموعات الفلسطينية المسلّحة في الضفّة، وأمام التوسع في الاستيطان وعنف المستوطنين.
بنيت الحرب استنادًا إلى قراءةٍ معينةٍ لقواعد العمل الإسرائيلية، اتّضح أنّ غالبيتها، إن لم يكن جميعها خاطئٌ. أولى هذه القواعد، أنّ إسرائيل لا تستطيع دخول حربٍ طويلة الأمد
بقدر ما يمكن الإشارة إلى استراتيجية التكيف والانتظار وحتى الاستجابة التي مارستها القيادة الفلسطينية أمام الضغط الإسرائيلي والخارجي (من مثل تغيير قوانين الأسرى، ومنع المجموعات المسلّحة)، بقدر ما يمكن الإشارة إلى أن عملية السابع من أكتوبر راهنت على شارعٍ غير معدٍ وغير منظمٍ، ولم تتحقق توقعات أنّ التفاعلات ستحدث ذاتيًا وآنيًا، من دون بناءٍ تنظيميٍ مسبقٍ، أو مخططٍ.
4- الفوز بالنقاط
بنيّت عملية السابع من أكتوبر استنادًا إلى فكرة أنّ الحرب مع الإسرائيليين لا تنتهي بالضربة القاضية، كما قال أحد قادة "حماس" في لقاءٍ مع كتابٍ ومثقفين، بل اعتبرت خطوةً على الطريق، كما جاء في خطاب حسن نصر الله (3 ديسمبر 2023). لكن آخذاً بالاعتبار، التدمير الهائل في قطاع غزّة، والإبادة، والتهجير، وعدم تحقق وحدةٍ فلسطينيةٍ سياسيةٍ، واغتيال أبرز القيادات السياسية والعسكرية في حركة "حماس"، واستهدافهم في غزّة، وإيران، ولبنان، وسورية، فإنّ قادة الحركة قد انتقلوا إلى الرهان على أنّ نقاطًا إيجابيةً ستتضح مع الوقت وليس الآن، كذلك فإنّ الأمور بخواتيمها، وحدث تسليمٌ نسبيٌ بفداحة النقاط التي خسرتها المقاومة (أنظر مثلاً إلى مقابلة القيادي في حماس موسى أبو مرزوق مع نيويورك تايمز 24 فبراير/شباط 2024). ولعل ما يمكن تسميته بالثمن الإنساني للحرب يستحق التوقف عنده بالتفصيل.
5- الثمن الإنساني
لمقاومة الاحتلال ثمنٌ يُسمى أحيانًا بالثمن الإنساني، أيّ الضحايا والتضحيات التي تترافق مع حروب التحرير، ولكن ما شهده قطاع غزّة، وبدرجةٍ أقلّ بعض مناطق الضفّة الغربية، تعدى ما يمكن وصفه بثمنٍ إنسانيٍ، فالإبادة في غزّة، ومسح مخيّماتٍ في الضفّة الغربية، فضلاً عن معناهما الإنسانيين، فإنّهما نوعٌ من تغيير أسس الصراع. ما حدث في قطاع غزّة تحديدًا لا يمكن الاكتفاء بتسميته بالكارثة الإنسانية وحسب، بل هو أولاً تغيير في معطيات الصراع، أقرب للبدء بإزالة أحد أطراف الصراع من الوجود فعليًّا، بالقتل، والإعاقة، والتهجير (التطهير العرقي)، فإذا سلمنا بعدد 300 ألف غزيٍ بين شهيدٍ ولاجئٍ خارج فلسطين، فالحديث عن نسبةٍ مئويةٍ ليست سهلةً من سكان القطاع (15% من مليونين). وثانيًا، هذا الثمن الإنساني سيكون له تداعياتٌ حياتيةٌ، واجتماعيةٌ، وفكريةٌ، ونفسيةٌ متسعةٌ ومتفاقمةٌ أو متغيرةٌ.
حسابات ما بعد الطوفان
تناقل الإعلام، في شهر مارس/آذار 2025 أنّ حركة "حماس" تقترح في مفاوضاتها مع الجانب الأميركي هدنةً طويلة المدى، قد تصل إلى عشر سنوات، وهو ما نفته مصادرٌ قريبةٌ من "حماس". في المقابل لم تنفِ الحركة الحديث والتفاوض عن "وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار" (أنظر الجزيرة نت 14 مارس 2025). تعني طروحات "حماس" الجديدة تحييد السلاح من المواجهة، على الأقلّ في قطاع غزّة، أو بكلماتٍ أدق تحييد البندقية أداةً هجوميةً في الصراع، والسعي ربما لإبقائها بندقيةً دفاعيةً.
بما أنّ المشروع الصهيوني، سواءً من حيث الاستيطان، أو استمرار ملايين اللاجئين خارج فلسطين وداخلها من دون حلٍّ، بل ويتعرضون لخطرٍ أكبر من حيث التذويب والإنهاء، عبر تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، وتدمير المخيّمات كما حدث في قطاع غزّة، ويحدث في جنين وطولكرم، فإنّ السؤال سيكون كما يأتي: توقف المقاومة المسلّحة بات أمرًا مقبولاً لدى حركة "حماس"، وبالتالي الفصائل عمومًا، لكن السؤال التالي، هو: ماذا بعد؟
ما دام الاحتلال موجودًا، ستستمر المقاومة بأنواعها، بما فيها الكفاح المسلّح، لأسبابٍ منها أنّ الاحتلال الإسرائيلي احتلالٌ استيطانيٌ عسكريٌ، لكن في الوقت ذاته هناك سؤالٌ عن شكل هذا الكفاح. فمسألة التشكيلات النظامية أو شبه النظامية، على شكل كتائب ووحداتٍ، ستكون فرص استمرارها، أو قيامها بدورٍ فاعلٍ، محدودةً للغاية، وأقصى دورٍ قد تتمكن من القيام به في قطاع غزّة، إن توصلوا إلى اتّفاقٍ لوقف إطلاق نار، سيكون داخليًا في القطاع، ما يفقدها تدريجيًا صفة المقاومة، أو ستكون قوّة دفاعٍ وردعٍ، وهذا أفضل دور يمكن أن تقوم به، لكنه لا يجيب عن سؤال "ما العمل" في مجمل القضية الفلسطينية، أمّا تجربة الكتائب في الضفّة الغربية، فإنّها تقوي طرحًا بديلاً هو أنّ العمل السري، والخلايا الصغيرة هي نهج الكفاح المسلّح "المنطقي" في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، إذا كان سيُتبنّى، بشرط إعداد الحاضنة الشعبية المقاومة، وإعادة بنائها.
تراجع فكرة، أو مشروع المجموعات المسلّحة الفلسطينية في الضفّة الغربية، سيكون إما لصالح فراغٍ مدمّرٍ، لا يقدّم فيه أحدٌ مشروعًا أو فعلًا على الأرض للتصدي للاستيطان والاحتلال، ومن دون عمليةٍ سياسيةٍ، وإما أن يكون البديل حركةٌ وطنيةٌ جديدةٌ قائمةٌ على تصورٍ للوحدة في النهج، والأدوات، والفعل، والتحرك على مختلف المسارات الداخلية والخارجية.
لعل تحييد قطاع غزّة، والحفاظ على ما تبقى منه الآن، هي الأولويّة التي يجب التوحد على قاعدتها، ثمّ وضع خطةٍ لمجمل العمل الفلسطيني، تراعي أدوات المقاومة الأنجع والضرورية. وقف النزيف الراهن، والاستجابة لتحدي متطلبات المرحلة الجديدة من المقاومة، قضيةٌ وجوديةٌ تمسّ جوهر بقاء القضية الفلسطينية، وحلّها على نحوٍ لا ينهي الوجود الفلسطيني سياسيًا ونضاليًّا.