استمع إلى الملخص
- شهدت الانتفاضات الفلسطينية تحولات كبيرة، حيث أعادت توجيه البوصلة بعد اتفاق أوسلو وحققت إنجازات مثل تحرير غزة، لكنها لم تؤدِ إلى استقرار سياسي بل إلى انقسام بين الفصائل.
- تبرز الحاجة إلى استثمار التضحيات في مسار سياسي جديد يعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي، مع تقديم نموذج وحدوي يتجاوز الانقسام ويحقق استحقاقات سياسية.
انتهت الحرب وصمدت غزة على مدار 467 يومًا من العدوان والإبادة والتجويع والتدمير والتهجير، قدمت خلالها نموذجًا في المقاومة بكامل مفرداتها، واحتفظت بالأسرى، وأفشلت خطة الجنرالات، ومنعت إعادة احتلال قطاع غزّة أو الاستيطان فيه، تحدت آلة القتل والبطش، وواجهت الجوع والبرد والموت والخوف، وأكلت علف الدواب وحشائش الأرض، ونزح سكانها مرّةً تلو الأخرى، حتّى انتزعت اتّفاقًا لوقف إطلاق النار.
انتهت الحرب وانتهى العدوان على قطاع غزّة بموجب هذا الاتّفاق، لكن التساؤلات المشروعة لم تنتهِ فماذا عن المسار السياسي الفلسطيني ما بعد العدوان؟ وهل ترتقي الاستحقاقات السياسية المستقبلية إلى حجم التضحيات والتطلعات؟ أم سنكون أمام مسار سياسي يُمرر القضية الفلسطينية ويختصرها من قضية تحرير وتقرير المصير إلى قضيةٍ إنسانيةٍ زادها وزوادها المساعدات والإعمار ورفع الحصار؟
كان "طوفان الأقصى" بحيثياته وإحداثياته وتداعياته ومتغيراته معركةً غير مسبوقةٍ في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، هكذا كانت الانتفاضة الأولى عام 1987، التي قدمت نموذجًا ثوريًا شعبيًا ودخلت قواميس اللغة، وأدخلت القضية الفلسطينية إلى وعي العالم، توعدها شامير وهددها، لكنها استمرت نموذجًا ثوريًا شعبيًا حضاريًا، وواصلت مراكمتها محليًا وإقليميًا ودوليًا على مدار سنوات ثمّ انتهت باتّفاق أوسلو...! واخُتصرت القضية الفلسطينية في "غزّة وأريحا أولًا"، ثم تلاشت هذه الأخيرة أيضًا وداستها جرافات أريئيل شارون في جنين، وتنكر لها بنيامين نتنياهو وأنكرها.
حافظت المقاومة على الحاضنة الشعبية، وأعادت القضية إلى واجهة الاهتمام الشعبي، العربي والغربي، في المنابر والجامعات والسرديات
بعد ذلك كانت انتفاضة الأقصى عام 2000 بعملياتها الاستشهادية النوعية، التي عدلت البوصلة، وقومت الاعوجاج الذي تعرضت له الثورة الفلسطينية عقب توقيع اتّفاق أوسلو وما ترتب عليه من تبعات، كما امتدت الانتفاضة في الجغرافيا الفلسطينية كلّها، وتصدت للعدوان، وواجهت الأسرلة والترويض والتذويب والتهويد، ونجحت في عام 2005 في تحرير قطاع غزّة ودحر المستوطنات، لتكون غزّة أول أرضٍ فلسطينيةٍ محررةٍ من الاحتلال.
بينما انتهت الانتفاضة الفلسطينية الأولى باتّفاق أوسلو، انتهت انتفاضة الأقصى بنتيجتين هما: تحرير قطاع غزّة أولًا، وثانيًا؛ اجتراح انتخابات فلسطينية تشريعية وصفت بالنزيهة والحرة، كونها تجربةٌ فلسطينيةٌ ديمقراطيةٌ نوعيةٌ ونموذجيةٌ في المنطقة العربية، لكن نموذج التحول الديمقراطي لم يُفض إلى استقرار سياسي، ولم يمض عام على تجربة الانتخابات، وعامان على تجربة التحرير حتّى ذهب المشهد الفلسطيني بأكبر كتلتين ومكونين للحركة الوطنية الفلسطينية، فتح وحماس، إلى الانقسام السياسي والجغرافي؛ وعلى مدار 17 عام احتكم المشهد للاقتسام، وحُكم بالانقسام حتّى كان "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في معركة الطوفان، نجحت أجنحة الفصائل الفلسطينية العسكرية كلّها في تقديم نموذجٍ مقاومٍ وحدويٍ، قادت المعركة، ونوعت تكتيكاتها العسكرية، التي استنزفت جيش الاحتلال، وابدعت في خططها وتصنيعها ورصدها وسيطرتها وإدارتها المعركة واحتفاظها بالأسرى. فهل تنجح قيادات الفصائل الفلسطينية السياسية في استثمار وتوظيف التضحيات وتُقديم نموذج لاستحقاقات المسار السياسي لما بعد انتهاء العدوان على قطاع غزّة؟ فهل نغادر مربع الانقسام؟ ونُعيد إنتاج تجربة انتخابات تشريعية ورئاسية؟ هل نضع القضية الفلسطينية على رأس الأجندات العالمية والدولية ونُبقيها حاضرة في وعي الشعوب، وننتزع استحقاقًا سياسيًا نحو دولةٍ فلسطينيةٍ معترف بها، ونواجه التهويد؛ ونعيد طرح القضايا السياسية المعطلة والمؤجلة منذ اتّفاق أوسلو المشؤوم، حقّ العودة والقدس والدولة والمياه والسيادة؟
بمعنى آخر أوفت المقاومة بوعدها، وأنجزت مهمتها، وأفرجت عن الأسرى، فهل تُكمل القيادات السياسية الفلسطينية الانجازات والاستحقاقات؟
يقتضي بعد الطوفان، وانتهاء العدوان استحقاقاتٌ، أقلّها إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس الشراكة والتوافق والاتّفاق؛ واستعادة منظّمة التحرير الفلسطينية، كي تعود ممثل الشعب الفلسطيني، وقواه السياسية، الشرعي باعتراف العالم أجمع، وإعادتها لدورها الوطني النضالي، بعدما ابتلعتها السلطة الفلسطينية وحولتها من كونها أداة تحريرٍ، وبيتًا للكل الفلسطيني ومكوناته؛ إلى منظّمةٍ بلا روحٍ وبرنامجٍ وطنيٍ، حتّى تكلست قياداتها، فانزوت المنظّمة، وتلاشت لصالح برنامج التنسيق الأمني المقدس.
انتصرت المقاومة الفلسطينية على أجندة نتنياهو ومخططاته، وواجهت الواقع الدولي ومتغيراته، وثبّتت معادلة الفعل الفلسطيني المقاوم، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، حتّى بات من غير الممكن تجاوزها أو شطبها، وفضحت الخذلان الدولي، الذي فشل، بكلّ مكوناته، في إدخال زجاجة مياهٍ لغزّة، أو وقف الإبادة، والقيام بالحدّ الأدنى من واجباته ومقتضياته في حفظ السلم والأمن الدوليين، كما ارتُكبت جرائم حربٍ على الهواء مباشرةً، فهل يستدير هذا العالم الآن؟ كي يصوب ويُصحح خطيئته، ويعترف بالدولة الفلسطينية، كأحد المسارات السياسية المستحقة لما بعد انتهاء العدوان.
كان "طوفان الأقصى" بحيثياته وإحداثياته وتداعياته ومتغيراته معركةً غير مسبوقةٍ في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة
حافظت المقاومة على الحاضنة الشعبية، وأعادت القضية إلى واجهة الاهتمام الشعبي، العربي والغربي، في المنابر والجامعات والسرديات، ليس كاتب المقال هنا بصدد إجراء جردة لحسابات الربح والخسارة بين المقاومة والسياسية، بين الثورة والتسوية، ولكن علينا، كما قال غسان كنفاني ذات يوم، أن ندق الخزان لتبق القضية الفلسطينية حاضرةً في الوعي، في الفكر، في الممارسة، في الاهتمام، لا تنزوي في ثنايا الانقسام والمحاصصة والحسابات. لأن انتهاء العدوان على قطاع غزّة، ووقف الحرب، وعودة دونالد ترامب تعني أنّ مرحلةً أخرى جديدةً مقبلةً ستشهدها المنطقة العربية، هدفها دمج إسرائيل كي تصبح شرعيةً ومشروعةً، ورأس حربةٍ في الشرق الأوسط الحديث، على حساب القضية الفلسطينية، وبالتالي من المهم جدًا ألا يُمرر بالسياسة وبالقوة الناعمة ما لم تستطيع إسرائيل تمريره بالقوّة العسكرية وبالحرب.
قدّم الشعب الفلسطيني نموذجًا للمقاومة والصمود والثبات على مدار أيّام الحرب، والآن بعد انتهاء العدوان يجب على قياداته السياسية تقديم نموذجٍ لمسارٍ سياسيٍ واضحٍ ومُحددٍ من خلال التوافق والاتّفاق على آليةٍ مشتركةٍ بين كلّ المكونات السياسية، من أجل مواجهة معركةٍ أخرى تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، لا تقل خطورةً عن المعركة العسكرية، واستكمال معركة الملاحقة القضائية في محكمة الجنايات الدولية لمجرمي الحرب، إثر تعرض الشعب الفلسطيني لإبادةٍ بشريةٍ، وتدمير أكثر من 80% من مباني قطاع غزّة، وبنيته التحتية.
في استشراف المسار السياسي الفلسطيني بعد انتهاء العدوان واستثماره، يحضر كاتب المقالة وصف الدكتور عزمي بشارة في كتابه "الطوفان.. الحرب على فلسطين في غزة"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حين قال "إن عملية طوفان الأقصى لا تأتي من أجل تلقين العدوّ درسًا عسكريًا، ولا لأجل تذكيره بقوة المقاومة والشعب الفلسطيني فحسب، بل الأكثر أهمية إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة قضايا المجتمع العربي والدولي، في ظلّ حملة تطبيع عربية كانت تسير إلى الأمام". فهل نلتقط ذلك ونحافظ عليه.
يجب على أيّ مسارٍ سياسيٍ فلسطينيٍ، بعد انتهاء الحرب، أن يراعي ما أنجزته معركة الطوفان، ويتجنب تكرار التجارب السياسية السالفة، عقب كلّ انتفاضةٍ وملحمةٍ فلسطينيةٍ.
انتهت الحرب، وعليه يجب أنّ نقدم لأنفسنا ولشعبنا وللعالم نموذجًا وطنيًا وحدويًا، ونغادر مربع الانقسام والاقتسام والمحاصصة، لنضع اللبنة الأولى لبناء الدولة الفلسطينية. وألا نختصر "طوفان الأقصى"، وتضحيات شعبنا الفلسطيني وصموده في هيئةٍ حكمٍ محليٍ مؤقتةٍ تستمد شرعيتها من رضى واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم العربية.