الضاحية الجنوبية... معالم مُحيت حتى أصبحت غريبة عن أهلها

28 نوفمبر 2024
دمار كبير في الضاحية الجنوبية (محمد سلمان)
+ الخط -
اظهر الملخص
- تعرضت الضاحية الجنوبية لبيروت لدمار هائل بسبب القصف الإسرائيلي، حيث تحولت مناطق مثل المريجة وصفير وسانت تريز إلى ركام، مما أدى إلى تغيير جذري في ملامحها ومعالمها.
- تأثرت الحياة اليومية للسكان بشكل كبير، حيث فقدوا منازلهم وذكرياتهم في الأحياء التي كانت تعج بالأسواق والمحال التجارية والمطاعم والمقاهي، مما أدى إلى صعوبة التنقل في المنطقة.
- تاريخياً، كانت الضاحية تُعرف بأراضيها الزراعية التي تحولت إلى مناطق عمرانية، وفقدت الكثير من تراثها وتاريخها، مما يعكس حجم الخسارة جراء الحرب.

تغيّرت ملامح الضاحية الجنوبية لبيروت. مناطق وأحياء كثيرة تحوّلت إلى ركام. يوميّات قاطنيها بتفاصيلها الصغيرة لم تعد كما كانت جراء الدمار الذي حل بها، بل إنها تغيرت تماماً عما ألفوه، إلى درجة لم يتعرفوا إليها

"دُمر شارع التحرير في منطقة المريجة في الضاحية الجنوبية لبيروت. في هذا الحيّ، اشتريت منزلي  حين تزوجت وأنجبت أطفالي. ادخرت الكثير من المال لأتمكن من تسديد ثمنه. في كل صباح، كنت أتوجه نحو فرن شقير، المعروف في المنطقة منذ أكثر من 30 عاماً، وأطلب منه تجهيز منقوشة الزعتر بالطريقة التي أحبها، أي رقيقة مع القليل من الزعتر، ثم أشتري علبة السجائر من سوبرماركت النور، التي أزورها يومياً لشراء احتياجات منزلي، وأتابع طريقي متوجهاً نحو عملي. وعند عودتي، أشتري بعض الحلويات من باتيسري لوليتا لأطفالي وقليلاً من الخبز للعشاء. وحين ترغب طفلتي بتناول الدجاج، كانت تفضل الذهاب إلى مطعم يبعد أمتاراً قليلة عن منزلنا، وهو فروج الهلال، كانت تردد دائماً أنه يقدم وجبات لذيذة للأطفال". هذا ما يقوله محمد يزبك، أحد سكان منطقة المريجة، وتحديداً في شارع المقاومة والتحرير، قبل أن يروي لـ"العربي الجديد" شبح الدمار الذي صارت عليه المنطقة. 
يضيف: "باغتتنا الحرب. انتقلت وعائلتي إلى مدينة بعلبك علماً أن قرار الفرار لم يكن سهلاً. أيام قليلة وأفرغت عشرات الصواريخ فوق منطقة المريجة. هُددت أحياؤها عدة مرات، وفي كل مرة كانت معالم المنطقة تتغير، وكأنها تتحول إلى صورة باهتة. وبعد أيام من القصف اليوميّ، رُميت الصواريخ فوق منزلي، فانشقّ وتدمر جزئياً. زرته منذ أسبوعين واعتمدت على ضوء هاتفي المحمول. حاولت إخراج ما تيسر أمامي من أغراض لكنني عجزت. التيار الكهربائي مقطوع، والمنطقة مظلمة حتى في ساعات النهار. كان الدخان يتصاعد من عدة جهات، والروائح كريهة، وشعرت كأن المنطقة تطلب من أولادها البقاء، وعدم الابتعاد عنها، لأنها شاخت فجأة. هذه المنطقة كانت تعج بالسكان. ضجيج مُستمر وزحمة سير خانقة. كانت تعج بالحياة. وحين أرغب وأصدقائي بالتنزه، نتوجه نحو كافيه غرين. نشرب القهوة معاً ونتبادل الأحاديث ونعود إلى منازلنا. وعلى دراجتي النارية، كنت أتجول في شارع الجميزة في منطقة المريجة، وقد سُميّ هكذا لأنه يضم عشرات المباني الحديثة، ويتميز عن باقي شوارع المنطقة بالأنوار. لكن الخرائط الإسرائيليّة دمرت هذه الأحياء. تضررت جميع المحال التجارية بشكل مرعب، ودُمر الكثير منها. فُجرت بعض الصواريخ فوق تعاونية النور، وأخرى فوق المحال التي أزورها يومياً، ومباني شارع الجميزة تحولت إلى رماد. يصعب علي القول إنني لم أتمكن من التعرف على الأحياء بعد زيارتي لها. أنا ابن المنطقة التي عشت فيها أكثر من 30 سنة، أصبحت غريباً عنها؛ فالمباني السكنية طُويت بعضها على بعض كالأوراق. قضت الصواريخ الإسرائيلية على ذكرياتنا في هذه الأحياء وتصعب إعادتها". 
بدّلت الصواريخ الإسرائيلية ملامح الضاحية الجنوبية لبيروت. تغيّرت الشوارع والأحياء السكنية. عشرات المشاريع السكنيّة دُمّرت بالكامل ومُسحت عن الخرائط وكأنها لم تكن في يوم من الأيام موجودة.  في هذه الأحياء ذكريات ومبان يفوق عمرها أربعين عاماً، تحولت في ثوان إلى ذكرى تخنق سكان المنطقة. 

تقطن رنا صالح في منطقة صفير، بالقرب من ملعب الراية قديماً، الذي تحول منذ سبع سنوات إلى مشروع ضخم يضم مباني سكنية وعشرات المحال التجارية التي كانت تتجهز للافتتاح، لكن الحرب الإسرائيلية كانت أسرع. وتقول: "دُمر منزلي منذ أسبوعٍ بعدما أغارت عليه الطائرات الحربية. وعلى مدى أيام، بقي الطيران الإسرائيلي يحلق فوق منطقة صفير ويقصف مبانيها لتدميرها. فوجئت حين شاهدت المقاطع المصورة التي توثق حجم الدمار. ذهلت وسألت شقيقي عن مكان هذا الدمار، ليجيبني بأنه الحي الذي نقطن فيه. كانت لحظة قاسية جداً. كيف للمرء أن ينسى الحي الذي عاش فيه سنوات؟ تُعرف هذه الأحياء باسم الشارع الصيني، وهي عبارة عن عشرات المحال التجارية التي خصصت للمبيع بالجملة فقط، أي لكبار التجار من مختلف الأراضي اللبنانية. شكلت هذه المتاجر لسنوات طويلة مقصداً للكثير من التجار الذين كانوا يقصدونها لشراء الملابس وكل ما يحتاجون إليه. أطلق على هذا الشارع اسم الصيني لأن البضاعة كانت تشحن من الصين، وكانت أسعارها مناسبة لجميع السكان. وفي هذا الشارع، توجد مكتبة شنغهاي، وهي المكتبة التي زارها كل طلاب الأحياء المجاورة لطباعة الأوراق وشراء القرطاسية والكتب المدرسية وكل ما يحتاجه الطالب ليتمكن من تجهيز المشاريع التي تطلب منه في المدرسة. هذه المكتبة تجاوز عمرها 20 عاماً. وبالقرب من منزلي صيدلية تعرف باسم أبو طعام، ومسمكة جابر المشهورة التي يقصدها سكان الضاحية لشراء السمك الطازج اليومي. أما محال مطر، فهي متاجر ضخمة لبيع السلع الغذائية بأسعار رخيصة، كنت أزورها لشراء المعلبات والسكاكر، وكانت تجذب الكثير من الزبائن كونها تخصص العروضات اليومية التي لا تتوفر في باقي المتاجر، فيتمكن الزبون من شراء الكثير من السلع الغذائية أو مستلزمات المنزل بأسعار ضئيلة. وعلى بعد أمتارٍ، كنا نقصد باتيسري شوكو كريم الذي كان يقدم أشهى أنواع الحلويات. وفي جميع المناسبات، كنا نطلب منه تحضير قوالب الحلوى بأشكال مميزة. وكان الحي الذي أقطن فيه يضم عدة محال تُسمى متاجر الدولار الواحد، تستورد البضائع الصينية لتبيعها بأسعار لا تتخطى الدولار الواحد". 

وسط الركام (محمد سلمان)
وسط الركام (محمد سلمان)

تتابع: "أسواق الجملة دُمرت بشكل كبير. اختفت مكتبة شنغهاي والعديد من محال البضائع الصينية، وتضررت بقية المحال بشكل كبير، حتى إننا لم نتمكن من التعرف عليها بسهولة لأن الركام تجمع فوقها وغطاها، والعديد من المباني هناك دُمرت وتحولت إلى ردمٍ. أما مشروع الراية، الذي كان يعرف سابقاً بملعب الراية المخصص لحزب الله لتنظيم احتفالاته وتحول إلى مشروع سكني ضخم يضم المحال التجارية، فقد تضرر بشكل كبير. تبدلت ملامح منطقة صفير، حتى بات التجول فيها صعباً جداً لأنه يصعب على السيارات التحرك بسهولة بسبب ضخامة الدمار. قضيت طفولتي في هذه المنطقة، واليوم دُمرت ذكرياتي بأكملها واختفت مع الردم". 
أما في منطقة سانت تريز، المعروفة أنها من المناطق الراقية في الضاحية الجنوبية، والتي كانت تتمتع بعمران جديد ومليئة بالمتاجر، فقد دُمر فيها شارع الوعد الصادق، وهو سُميّ بعد انتهاء حرب تموز عام 2006. يشرح أحمد فقيه، وهو أحد سكان المنطقة، أن هذه الأحياء كانت تتغذى بالتيار الكهربائي من مولدات كهربائية تعود لصاحبها كارلوس، وقد دُمرت المولدات كلها. وإلى جانبه إحدى الصيدليات المعروفة بالمنطقة واسمها زين. وكان شبان الحي يتوجهون إلى مطعم مشهور هناك يسمى الشرتوني، الذي يقدم وجبات جاهزة، ويُعرف بتحضير وجبات للشبان الذين يمارسون الرياضة بشكل يوميّ. هذا المحل كان يجهز أطباق البيض المسلوق والخضار، وشطائر كبيرة الحجم. العديد من سكان الحي كانوا يفضلون شطيرة الحبش والجبنة المليئة بالخضار. وفي زاوية الحي، كان الشبان يتجمعون لمشاهدة المباريات الرياضية، وتناول القهوة ولعب الورق في مقهى الفلمنكي". يضيف أن "عشرات المباني في هذه الأحياء دُمرت بالكامل، وهذه المتاجر تضررت بشكل كبير، حتى بات الدخول إليها مستحيلاً. دُمر نصف المباني، ما يعني أن ما صمد من بينها يجب أن يدمر بشكل كامل ليُعاد البناء من جديد. فقدت هذه الأحياء شكلها المعتاد، وتحولت إلى منطقة مهجورة وغريبة عن أهلها وسكانها، وهذه من أصعب المشاعر التي نعيشها عند زيارتنا لتفقدها". 

يحاول إزالة الغبار عن السيارة (محمد سلمان)
يحاول إزالة الغبار عن السيارة (محمد سلمان)

خسرت الضاحية الجنوبيّة تاريخها وتُراثها. وفي حديث خاص لرئيس بلدية برج البراجنة عاطف منصور، يؤكد لـ"العربي الجديد" أن "هناك مشاريع دُمرت بأكملها، ومُحيت عن الخرائط، منها شارع خديجة همدر في منطقة تحويطة الغدير، وحيّ يطلق عليه اسم شارع السيّاد لأن سكانه منذ عقود طويلة كانوا من السياد، أي من سُلالة النبي محمد، كعائلة إسماعيل. وكانت هذه الشوارع تُسمى بأسماء العائلات التي سكنتها منذ أكثر من 60 عاماً. كما أن مشروع الأمير في المريجة دُمر بأكمله وهو عبارة عن تسعة مبان سكنية". يضيف: "خسرنا محال كان عمرها يتجاوز عشرين عاماً، كصيدلية سحر في شارع المقاومة والتحرير في المريجة. وفي هذه الأحياء، كانت هناك نافورة مياه تغذي المنطقة بأكملها، لكنها تضررت جراء الصواريخ الإسرائيليّة. وهناك ساحة المنشية التي تضم عشرات الأبنية، وتشكل رمزية كبيرة لسكان الضاحية القدامى. والعائلات المعروفة هناك هي منصور، حاطوم، السبع، سباعي، وعلامة، وتسكن في المريجة منذ أكثر من 60 عاماً. وهناك معالم أثرية تاريخية عبارة عن عمود يعود لأيام العثمانيين. ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية، نقل إلى مركز تابع للبلدية في منطقة الرويس، لأنه تضرر في حرب تموز". 

واشتهرت الضاحية الجنوبية منذ عقود بالأراضي الزراعية التي كانت تغذي كل مناطق العاصمة بيروت. وفي عام 1967، بدأت حركة النزوح نحو الضاحية الجنوبية لتتحول المساحات الخضراء والزراعية فيها إلى مساحات ضخمة من العمران والإسمنت، لتتوافد عائلات كثيرة إليها.   
ويتحدث المؤرخ والأستاذ الجامعي حسن عمار لـ"العربي الجديد" عن تاريخ الضاحية الجنوبية، ويقول: "رحلة النزوح نحو الضاحية بدأت منذ عام 1958. قدم السكان من مناطق عدة مثل علمات وطرزيا، وتضاعفت حركة النزوح في عام 1975، حيث كانت الرمال تمتد من منطقة المطار وصولاً إلى خلدة (جنوب بيروت)، وبدأت حركة العمران". يضيف: "أطلق عليها اسم الضاحية كونها ضاحية المحرومين، إذ إن سكانها من الفقراء المحرومين". ويشير إلى أن ساحة المنشية في برج البراجنة تضررت بشكل كبير في هذه الحرب. وتاريخياً، يوضح أن اسمها يعود إلى القاضي مصطفى رضا، الذي درس في تُركيا، وكانت تربطه علاقة قوية بالمتصرف العثماني الذي زار البرج، وتم شراء قطعة صغيرة من الأرض في المنطقة لتكون ذكرى للمتصرف، وسميت بالمنشية لأنها عبارة عن حديقة، وزرعت بالورود، ووضع عمود المنشية فيها، وبالقرب منها تضرر جامع المنشية بسبب القصف الإسرائيليّ. أما المدفن الذي يضم أكثر من تسعة آلاف قبرٍ، فتضرر أيضاً خلال هذا العدوان". 

المساهمون