استمع إلى الملخص
- كانت عائلة أبو شرخ تعيش حياة بسيطة، حيث كان الأب يعمل في البناء والابن الأكبر محمود كشرطي مرور، بينما كانت الابنة سحر تطمح لدراسة التمريض.
- تعاني الأم سلوى من إصابات خطيرة وتعيش وحيدة بعد نقلها للعلاج في مصر، متذكرة عائلتها وتعبر عن ألمها العميق لفقدانهم.
بعد 48 ساعة من إبادة إسرائيل لبلوك "6" أو ما يعرف بحي السنايدة واستشهاد كل من فيه، والذي عشت فيه المرحلة الأولى من طفولتي، نفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية حزاماً نارياً آخر على بلوك "7"، حيث منزل والدي. تقريباً فارق المسافة بين بلوكي "6" و"7" الواقعين في قلب مخيم جباليا وتحديداً وسط شارع الهوجا، قرابة 200 متر.
بلوك "7"، يأخذ الشكل المربع من حيث توزيع المنازل، يعدّ ذلك الحي من أقدم أحياء مخيم جباليا، المنازل أغلبها شيدت عام 1956، جدرانها من الطوب الأحمر كما يعرف، معظم من يسكن في هذا الحي هم أحفاد الأجداد الذين أنشأوا تلك المنازل. ويحتوي بلوك "7" على خليط من العوائل التي هجرت من بلدات مختلفة عام 1948، لكن رغم اختلاف أصول بلداتهم، فإنه تجتمع بهم صفات مشتركة، تشعر بأنهم عائلة كبيرة مقسمة على 20 منزلاً.
رغم ازدحام المخيم، والضوضاء التي تعد سمة رئيسية فيه، فإن بلوك "7" يعد الأكثر هدوءاً من بين أحياء المخيم، فالسكان أو الجيران هناك ينامون باكراً ويستيقظون صباحاً على أعمالهم، كذلك الأمر لطلبة المدارس والجامعات. الكل في بلوك "7" يعرف بعضهم البعض؛ الغريب من يدخل ذلك الحي يجري التعرف عليه بسرعة، عشت ربع قرن في ذلك الحي لم أذكر يوماً أنه حدث شجار أو عراك بين العوائل باستثناء عراك الأطفال وهو أمر طبيعي.
يبعد كل منزل عن الآخر، تقريباً نصف متر، لدرجة أنه لا يمكن لشخصين السير معاً في الزقاق. لكل منزل رائحة خاصة، بعض العوائل رائحة منزلها قريبة من رائحة القرنفل، وعائلة أخرى رائحتها قريبة من رائحة الأخشاب، حتى إن هناك عائلة نلقبها بعائلة "النعنع"، لأنه حين تدخل منزلهم تفوح دوماً رائحة النعنع.
بعض العوائل في الحي، اجتماعية جداً، ولديها ذكاء اجتماعي تتفاعل مع كل فئات الحي، لكن هناك بعض العوائل منغلقة إلى حد كبير، عاشت بِصمت ورحلت بِصمت، تكتفي فقط بإلقاء السلام عليك والابتسام بوجهك، تماماً مثل عائلة العم محمد أبو شرخ "51 عاماً".
عائلة أبو شرخ مكونة من العم محمد وزوجته سلوى "49 عاماً"، وابنه محمود "22 عاماً" وابنه محمد "14 عاماً" وابنته سحر "18 عاماً". تعد العائلة من الأسر المتعففة في الحي، الوالد كان دوماً يسير بدراجته الهوائية، يبحث عن عمل في مهنة البناء، حين جرى توظيف الابن الأكبر محمود شرطيَ مرور في يناير 2022، انتعشت العائلة مادياً بعض الشيء.
منزل عائلة أبو شرخ، مغطى بالقرميد، شكله بسيط من الخارج والداخل، حتى أثاثه بسيط، تقريباً مساحته 90 متراً. محمود رجل المرور، كان يعمل على مفترق الهوجا لتنظيم سير المركبات، دوماً مبتسم، أكسبته المهنة الجديدة تطوراً في شخصيته، وأصبح اجتماعياً أكثر، يتمتع بحب كبير من السائقين وأهالي الحي، على عكس شخصية والده الهادئة جداً.
في حدود العاشرة مساء من ليلة 2 نوفمبر 2023، ألقت الطائرات الحربية ثلاث قنابل على الجزء الشمالي من بلوك "7"، وشطب من السجل المدني سبع عوائل، من بينها عائلة أبو شرخ، قُتل الجميع، الوالد الهادئ، ومحمود رجل المرور، ومحمد الصغير المكنى باسم والده، والشابة الصغيرة سحر التي كانت تدرس التوجيهي وكانت تعد من الطالبات المجتهدات، إذ كانت ترسم لنفسها خطة دراسية مستقبلية لدراسة التمريض.
الأم سلوى نجت بقدمين مهشّمتين
الناجية الوحيدة، كانت الأم سلوى، ولصعوبة تنقل رجال الدفاع المدني ورجال الإسعاف بين أزقة الحي، جرى انتشال الأم، فيما تركت باقي العائلة مختفية في الحفرة التي خلفتها تلك القنابل. وبعد أسبوعين تقريباً من الحادثة، جرى نبش الأنقاض بحثاً عن الجثث، وتمكّن الأهالي من العثور على بعض الجثث، دفن أبناء الحي عائلة أبو شرخ في قبر واحد، وحتى اللحظة لم يجر العثور على جثمان الصغير محمد.
تعرضت الأم سلوى لإصابة بليغة في القسم السفلي من جسدها، وفقدت الوعي لمدة ثلاث أيام، وحين استفاقت، صُدمت برحيل جميع العائلة، والصدمة الثانية أن أسياخ البلاتين قد زرعت في كلتا قدميها المهشمتين، تقول الأم عما قبل لحظة القصف: "أتذكر يومها، أعددت العشاء باكراً بصحبة بنتي سحر، أكلنا بسرعة وشربنا الشاي على عجل أيضاً، كان الرعب وصوت الطائرات في تلك اللحظة مرعباً، محمود كان هادئاً جداً ويحاول افتعال حركات لتخفيف توترنا، خلدنا إلى النوم، واستيقظت ووجدت نفسي لا أستطيع الحركة، ولم يبق أحد من العائلة".
تدهورت حالة سلوى الصحية، بفعل نقص الأدوية، والتسمم الذي أصاب بعض الأوردة في قدميها، طالبت مراراً باستكمال علاجها في الخارج، وقد شهدت الأم اقتحام قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان، إذ يومها سقطت عن سرير المرض بفعل تزاحم المرضى الذين هربوا من الشظايا التي وصلت إلى غرف المستشفى. تكمل عن هذه الجزئية : "بقيت قرابة 6 ساعات على الأرض أصرخ من شدة الألم، إلى أن جاءت إحدى الممرضات وكانت مصابة برأسها، وبمساعدة مرافقة مريضة وضعوني مرة أخرى على السرير".
بعد قرابة أربعة أشهر، أي في تاريخ 10 مارس 2024، جاءت الموافقة على سفر سلوى إلى مصر، والآن هي في رحلة علاج في المستشفى الإماراتي العائم في مدينة العريش المصرية، وما زالت أسياخ البلاتين أو أجهزة تثبيت المفاصل ملتصقة بقدميها.
مرّ أكثر من عام على ذكرى مذبحة عائلة أبو شرخ، وما بقي للأم سوى بضع صور لعائلتها على هاتفها المحمول، وذكرياتها مع العائلة، تختم قصتها: "كنت أتمنى الرحيل معهم في تلك اللحظة، أنا الآن وحدي، لا أعلم كم تبقى من عمري، ولكن مسألة أن تعيش وحدك وأنت مصاب لا تستطيع الحركة، كأنك تموت في اللحظة مائة مرة".