الاعتراف بلا إقامة: معضلة الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال
استمع إلى الملخص
- الاحتلال كعائق للسيادة: الاحتلال الإسرائيلي يمنع فلسطين من ممارسة سيادتها الفعلية، مما يضعف وحدة القرار الفلسطيني ويعمق "اللامركزية السياسية"، ويجعل الاعتراف الدولي قشرة قانونية دون مضمون سيادي.
- الآثار القانونية للاعتراف: الاعتراف الدولي يفرض التزامات على الدول المعترفة، مثل عدم الاعتراف بالمستوطنات، ويفتح الباب لمساءلة إسرائيل دوليًا، مما يعزز الضغط القانوني والدبلوماسي لتحقيق إقامة الدولة الفلسطينية.
منذ عقود، ظلّ مفهوم "الدولة الفلسطينية" يتأرجح بين الاعتراف القانون الدولي والإقامة الفعلية على الأرض. فبينما تجاوز عدد الدول التي اعترفت بفلسطين الـ157 دولةٍ في سبتمبر/أيلول 2025، لا تزال السيادة الفلسطينية غائبةً فعليًا، لأنّ الإقليم خاضع لاحتلال عسكري كامل يمنع ممارسة السلطات السيادية الأساسية. هذه المفارقة بين "الاعتراف" و"الإقامة" تُجسد واحدةً من أعقد معضلات القانون الدولي المعاصر: هل يكفي الاعتراف الدولي لتأسيس دولة في ظلّ غياب السيطرة الفعلية؟ أم أن الدولة لا تُقام إلّا بامتلاك أدوات الحكم على الأرض؟
أولاً: الاعتراف الدولي أداةً لتثبيت الوجود القانوني
يُعدّ الاعتراف في القانون الدولي فعلًا سياديًا تُقرّ به الدول بوجود كيان يملك صفات الدولة وفقًا لمعايير اتّفاقية مونتفيديو عام 1933: السكان، الإقليم، الحكومة، والقدرة على الدخول في العلاقات الدولية. ورغم أنّ فلسطين لا تملك السيطرة الفعلية على أراضيها، فإنّ المجتمع الدولي، عبر قرارات الجمعية العامة (خصوصًا القرار 19/67 عام 2012)، منحها صفة "دولةً غير عضو"، ما مكّنها من الانضمام إلى منظّمات دولية، أبرزها المحكمة الجنائية الدولية ومنظّمة اليونسكو.
لقد أنتج الاعتراف الواسع بدولة فلسطين مشروعيةً سياسيةً وقانونيةً لا يمكن التراجع عنها، لكنه لم يُنتج سيادةً فعليةً بعد
الاعتراف المتزايد بالدولة الفلسطينية خلال عام 2025 من جانب دول غربية مركزية (فرنسا، بريطانيا، البرتغال، أستراليا وغيرها) يمثّل تحولًا نوعيًا في الإرادة الدولية، إذ لم يعد الاعتراف محصورًا في دول الجنوب أو المعسكر الداعم للتضامن، بل بات ظاهرةً تمتد إلى معاقل النظام الدولي نفسه. ومع ذلك لم يُترجم الاعتراف بعد إلى إقامة الدولة فعليًا، ما يجعل من فلسطين "دولةً مُعترفًا بها، ولكنها غير مُقامة".
ثانيًا: الاحتلال عائقًا أمام الإقامة الفعلية
يميّز القانون الدولي الإنساني بوضوح بين الاعتراف بالسيادة وممارسة السيادة، فوجود الاحتلال لا يُلغي الشخصية القانونية للدولة، لكنه يحدّ من قدرتها على ممارسة سلطاتها. وبالتالي، فإن الحالة الفلسطينية تُصنّف اليوم "دولةً تحت الاحتلال"، وهو توصيف أقرّته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري لعام 2004 حول الجدار العازل، وأعاد الرأي الاستشاري الصادر عام 2024 تأكيده ضمن مفهوم "الاستعمار الاستيطاني المستمر".
في ظلّ الاحتلال، تتحول أدوات الحكم الفلسطيني إلى سلطات مقيدة، تفتقر إلى السيطرة على الحدود، المجال الجوي، المياه الإقليمية، والموارد الطبيعية. وبذلك، يصبح الاعتراف الدولي قشرةً قانونية من دون مضمون سيادي. كما أن التشظي الجغرافي بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة، إلى جانب الانقسام السياسي الداخلي، يُضعف وحدة القرار، ما يسمح للاحتلال الإسرائيلي بتعميق واقع "اللامركزية السياسية"، أي تفكيك الإقليم الفلسطيني إلى كيانات إدارية منزوعة السيادة.
ثالثًا: الآثار القانونية للاعتراف في ظلّ الاحتلال
رغم محدودية المردود العملي، يُنتج الاعتراف الدولي آثارًا قانونية مُلزمة على أطراف عدة:
1. الدول المُعترِفة: تصبح ملزمة بمبدأ عدم الاعتراف بالأوضاع غير المشروعة، أي المستوطنات أو ضمّ الأراضي بالقوّة، وفقًا للعديد من المرجعيات القانونية الناظمة للتفاعلات الدولية، التّي تشمل ميثاق الأمم المتّحدة، الذي أشار إلى أنّ أيّ عملية ضمّ لأراضي دولة أخرى بالقوّة يعتبر باطلًا قانونيًا في إطار المادة (4/2). كما أكّدت الالتزام ذاته قرارات الجمعية العامة، ومجلس الأمن، إلى جانب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي أضاف ضرورة عدم تقديم أيّ دعم في هذا الوضع غير القانوني.
2. على إسرائيل، قوّة الاحتلال: يعني الاعتراف المتزايد بفلسطين أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لم يعد “نزاعًا إقليميًا” بل أصبح احتلالًا لدولة معترف بها، ما يفتح الباب نظريًا لمساءلة الاحتلال الإسرائيلي بصفته دولة أمام محكمة العدل الدولية عن هذا السلوك، وهو ما قدمت إليه في رأييها الاستشاريين حول الوضع في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب ذلك يقدم هذا التفسير بابًا يمكن التعويل عليه في تأكيد الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية، ويحوّل أفعال الاستيطان والنقل القسري إلى جرائم ضدّ دولة أخرى (فلسطين)، ويفتح الباب لملاحقة مرتكبيها للعدالة.
3. الأمم المتّحدة والنظام الدولي: تُعزز الاعترافات المتلاحقة موقع فلسطين في الجمعية العامة، وقد تُشكّل ضغطًا لتفعيل قرار "يونايتينغ فور بيس/ Uniting For Peace" الذي يتيح للجمعية العامة اتّخاذ تدابير جماعية عندما يعجز مجلس الأمن بسبب الفيتو. كما أن توسيع دائرة الاعتراف يُقوّي حجّة المطالبة بعضوية كاملة في الأمم المتّحدة، رغم المعارضة الأميركية المستمرة.
يميّز القانون الدولي الإنساني بوضوح بين الاعتراف بالسيادة وممارسة السيادة، فوجود الاحتلال لا يُلغي الشخصية القانونية للدولة، لكنه يحدّ من قدرتها على ممارسة سلطاتها
رابعًا: إقامة الدولة... معركة سيادية
الإقامة الفعلية ليست مجرد سيطرةٍ إداريةٍ، بل تجسيدٌ لحقّ تقرير المصير، إذ يستمر الاحتلال الإسرائيلي في تقويض حقّ الفلسطينيين هذا عبر سياسات الاستيطان، والحصار، والضمّ التدريجي، ما يجعل "إقامة الدولة" رهينة إرادة القوّة أكثر من إرادة القانون. في المقابل، فإنّ المقاومة القانونية والدبلوماسية الفلسطينية، عبر الانضمام للمعاهدات الدولية، وتوسيع نطاق الولاية القضائية للمحكمة الجنائية، تمثّل شكلًا من أشكال "الإقامة الرمزية"، أي تثبيت الدولة في المجال القانوني رغم غيابها الميداني. هذا النمط من "الإقامة القانونية تحت الاحتلال" يذكّر بتجارب دولية أخرى، مثل ناميبيا تحت إدارة جنوب إفريقيا قبل استقلالها عام 1990، إذ ظلّت "دولةً معترفًا بها دوليًا" رغم الاحتلال، إلى أنّ نفذت قرارات مجلس الأمن، التّي أنهت السيطرة الأجنبية. وهو المسار ذاته الذي يمكن أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها عبر الضغط القانوني والدبلوماسي في أروقة السياسة الدولية، ويقود الفلسطينيين إلى حلم الدولة الفلسطينية.
خاتمة
تجسد الحالة الفلسطينية نقطة اختبار جوهرية للنظام الدولي، فهل يمكن أن تعيش دولةً في القانون من دون أن تُقام على الأرض؟ لقد أنتج الاعتراف الواسع بدولة فلسطين مشروعيةً سياسيةً وقانونيةً لا يمكن التراجع عنها، لكنه لم يُنتج سيادةً فعليةً بعد. بينما يظلّ الاحتلال العائق المادي الأكبر أمام إقامة الدولة الفلسطينية، فإنّ التحدي الحقيقي اليوم هو تحويل الاعتراف من موقف إلى التزام، ومن رمزية إلى ممارسة، عبر أدوات القانون الدولي، والمساءلة، وتفعيل مسؤولية الدول الجماعية. إنّ معضلة "الاعتراف بلا إقامة" ليست نقصًا في شرعية الدولة الفلسطينية، بل دليلٌ على عجز النظام الدولي نفسه عن إنفاذ شرعيةٍ أقرّ بها ولا يملك إرادةً لحمايتها.