الحق في المقاومة أم ضرورة نزع السلاح؟ تفكيك الخطاب الاستعماري في ضوء القانون الدولي
استمع إلى الملخص
- يعترف القانون الدولي بشرعية الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي، كما هو موضح في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، مما يجعل نزع السلاح القسري مشروعًا استعماريًا.
- يُستخدم القانون الدولي أحيانًا لشرعنة القوة، مما يعكس الهيمنة الإمبريالية، ويعتبر نزع سلاح المقاومة غير ملزم قانونيًا طالما الاحتلال مستمر.
يلقى موضوع نزع السلاح في الأوساط الشرق أوسطية تركيزًا كبيرًا في الوقت الراهن، من قبل الدول المهيمنة ودول الإقليم على حدٍّ سواء، لكن لم يعالج الموضوع من الناحية القانونية، وبالتحديد من زاوية القانون الدولي، كما لم تفند الحجج القانونية والسياسية المستندة إليها في حالات سورية ولبنان وإيران وفلسطين، وأبعد من ذلك في اليمن والسودان وليبيا والكونغو والصومال أيضًا المعنيين به كذلك.
إن نزع سلاح الفصائل المسلحة، والفاعلين من غير الدول (non-state actors)، في دولٍ سياديةٍ، أو في دولٍ منزوعة السيادة، هي قضية تتقاطع فيها السياسة مع القانون الدولي وحقوق الإنسان، وبالطبع مع الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي.
كما أن الفصائل المسلحة داخل الدول (مليشياتٌ، جماعاتٌ مسلحةٌ، فواعلٌ إثنيةٌ وطائفيةٌ وأيديولوجيةٌ...) تمثّل تحديًا مباشرًا لسيادة الدولة، وحقوق الإنسان (بسبب الانتهاكات والاحتكام للقوّة)، والاستقرار الإقليمي (خصوصًا عندما ترتبط هذه الجماعات بجهاتٍ خارجيةٍ)، ولمستقبل العملية السياسية في دول النزاع، أو ما بعد النزاع. لذلك، تطالب الأمم المتّحدة والمنظّمات الدولية (مثل الاتّحاد الأوروبي، الاتّحاد الأفريقي، الجامعة العربية) بتطبيق برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR: Disarmament، Demobilization، Reintegration).
استخدمت ذريعة "الدفاع عن النفس" لتبرير الاعتداءات الاستباقية الإمبريالية (أفغانستان، العراق، فلسطين...)، ولتغييب الاعتراف الصريح بحقّ حركات التحرر الوطني في استعمال القوّة
تتجلى القضية الشائكة والتاريخية حاليًا في مساعي إنهاء الحرب عند غزّة، إذ طالبت دول عربية، إضافة إلى الاتّحاد الأوروبي وأميركا ودول أخرى، حماس بـ"نزع سلاحها وتسليم إدارة قطاع غزّة للسلطة الفلسطينية تحت إشراف دولي". في حين نفت حماس؛ في الثالث من أغسطس/آب 2025، بوضوح أيّ موافقة على نزع السلاح، مؤكّدةً حقّها الوطني والقانوني في المقاومة.
لا ينص القانون الدولي على نزع سلاح حركات المقاومة الوطنية ضدّ الاحتلال الأجنبي، وكذلك الأمر في العرف القانوني، وعليه فإن نزع سلاح المقاومة ليس مسألة قانونية تقنية بحتة، بل مشروع سياسي طبقي استعماري هدفه تفكيك أدوات التمرد الشعبي ضدّ البنية المهيمنة، وتحويل المقاومة إلى زائدة قانونية تُدار في إطار المنظومة الليبرالية التي تشرعن القمع باسم "الدولة" و"الشرعية الدولية".
في ما يخص شرعية الكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال حسب القانون الدولي، نجد في البروتوكول الإضافي الأول لاتّفاقيات جنيف (1977) في المادة 1(4): أنّ النزاعات المسلحة التي تناضل فيها الشعوب ضدّ السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي والأنظمة العنصرية بمثابة نزاعات دولية، أي يُعترف بشرعيتها القانونية.
كما نجد الأمر ذاته في قرارات الجمعية العامة للأمم المتّحدة: القرار 1514 (1960) بشأن "منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة". والقرار 3103 (1973) الذي يعترف بـ"حقّ الشعوب الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي في استخدام جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلّح". من ذلك كلّه فإن نزع السلاح القسري في هذه الحالة يتعارض مع الحقّ الجماعي في تقرير المصير والمقاومة، ولا يوجد أي سند قانوني لإجبار حركة مقاومة وطنية على نزع سلاحها في ظلّ استمرار الاحتلال، أو غياب حلّ سياسي عادل.
يعترف العرف الدولي بشرعية الكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال، مثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، المؤتمر الوطني الأفريقي (جنوب أفريقيا)، أيضًا؛ منظمة سوابو (ناميبيا)، التي احتفظت بسلاحها حتّى انتهاء الاحتلال/النظام العنصري.
لن نجد في سجلات القانون الدولي، أو حتّى في ممارسات الأمم المتّحدة حالة واحدة أُجبر فيها طرف مقاوم على نزع سلاحه قبل إنهاء الاحتلال، حتّى في اتّفاقيات السلام (مثل أوسلو، نيفاشا، دايتون)، التي تتعامل مع نزع السلاح ضمن سياق ترتيبات متبادلة، وليست من طرف واحد.
أولًا: نزع السلاح أداة لإخماد الصراع والنزعة التحررية
1. من القانون إلى الصراع البنيوي: من يطلب نزع السلاح ولماذا؟
الدولة ليست كيانًا محايدًا، بل أداة في يد الفئة المهيمنة. لذا، فإن دعوات نزع سلاح المقاومة من قبل الدول لا ينبع من الحرص القانوني، بل من مشروع سياسي يريد دمج الفلسطينيين في بنية استغلال واستعمار اجتماعي اقتصادي/استيطاني. حيث الدول تُعيد إنتاج النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم، والسياسي كذلك، من خلال القمع المؤسساتي، بما في ذلك "القانوني".
حاليًا؛ يُستخدم القانون أداة لشرعنة القوّة بدلًا من تقييدها، إذ لا يُمكن فصل القانون الدولي عن البنية التحتية الاقتصادية عالميًا، التي تهيمن عليها الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية
2. نزع السلاح عملية تفكيك ذاتي
نزع السلاح في ظلّ غياب حلّ جذري وعادل، يؤدي إلى إخراج الحركة الشعبية من معادلة القوّة، ويرسخ الهيمنة الكولونيالية عبر مؤسسات "أمنية"، غالبًا ما تكون مستعمَلة لتحويل المقاومة من مشروع تحرري إلى وظيفة أمنية كما قال فرانز فانون: "حين يُنزع السلاح من يد المستعمَر، يُجرد من حقّه في الحلم، ويُسلم إلى إدارة الموت البطيء".
3. التطبيع مع العنف القانوني
يجرم القانون الليبرالي الحديث السلاح غير الخاضع لسلطة "الدولة"، لكنه يتجاهل إذا كانت هذه الدولة شرعية أم استعمارية. بذلك، يُحوَّل حامل السلاح المقاوم إلى "إرهابي"، في ما يُمنَح سلاح الاحتلال الممنهج شرعية قانونية. هذه مشكلة "حياد القانون" الكاذب في السياقات الاستعمارية، فهو يُشرعن القمع باسم السلم، ويُدين التمرد باسم "النظام".
يعتبر الرأي القانوني نزع سلاح المقاومة مسألة غير ملزمة قانونيًا طالما الاحتلال مستمر، لأنّه مشروع اجتماعي اقتصادي-استعماري لإخضاع الجماهير، بالتالي فإنّ الدفاع عن المقاومة المسلحة حقّ مشروع ضمن القانون الدولي، مع مساءلة الاستخدام الانتقائي للقانون لصالح المستعمرين.
ثانيًا: الأسس والمفاهيم القانونية، حق المقاومة المسلحة وطبيعة الصراع
يُستند الحقّ في استخدام المقاومة المسلّحة إلى مبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، الذي يُعد من مبادئ القانون الدولي العام (jus cogens)، أي؛ هذا الحق لا يُلغى بل يجب أن يُمارس وفق قواعد القانون الدولي الإنساني. في الوضع الراهن الفلسطيني، تقر وثيقة المبادئ والسياسات العامة لحركة حماس عام 2017 بأن "المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال مشروعة بموجب القانون الدولي".
هل حماس "دولة" أم فصيل مسلّح وما هي الالتزامات المتبادلة وفق القانون الدولي الإنساني (IHL)؟ أحد أول الأمور التي يجب أخذها في الاعتبار، في النقاش القانوني الدائر بهذا الشأن؛ هو تحديد ما إذا كان يمكن تطبيق المادة 51 من ميثاق الأمم المتّحدة على كيانات لا يمكن تصنيفها "جهات فاعلة من الدول"، فحسب المادة 51 من ميثاق الأمم المتّحدة: "ليس في هذا الميثاق ما يضعف الحقّ الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسها إذا وقع هجوم مسلّح.."
بينما يرى كثيرون أن الحرب الجارية تُعد نزاعًا بين دولة وجهة فاعلة من غير الدول، يرى آخرون أن حماس تُعد السلطة الحاكمة بحكم الأمر الواقع في قطاع غزّة، لكن هذين التفسيرين يؤديان إلى نتائج قانونية مختلفة:
فإن اعتُبرت حماس جهة فاعلة من الدول، لإسرائيل الحقّ في استخدام القوّة، باسم الدفاع عن النفس، وفقا للمادة 51، بشرط ألا يتحول إلى وسيلة للعدوان أو الاحتلال الدائم، كما يجب أن يتوافق مع مبدأ الضرورة والتناسب، حسب القانون الدولي الإنساني. لكن؛ حسب رأي محكمة العدل الدولية؛ فإن الاحتلال لا يمنح المحتل حقّ "الدفاع عن النفس" ضدّ سكان الأرض التّي يحتلها، لذلك لا يمكن لإسرائيل التذرع بالدفاع عن النفس ضدّ تهديدات من أراضٍ تحتلها، وعليه يُصنّف ما تفعله في قطاع غزّة ـ"عقابًا جماعيًا"، وهو محظور في القانون الدولي الإنساني.
أما إذا لم تُعتبر حماس جهة فاعلة من الدول، حينها قد يُعد استخدام إسرائيل للقوّة انتهاكًا لقانون الـ jus cogens، أيّ القانون الآمر، الذي لا يجوز مخالفته. ومع ذلك، اتخذت الممارسة الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 اتجاهًا مختلفًا، حين تعامل المجتمع الدولي مع العديد من الحالات التي شملت جهات فاعلة من غير الدول على اعتبارها جهات فاعلة من الدول.
لا ينص القانون الدولي على نزع سلاح حركات المقاومة الوطنية ضدّ الاحتلال الأجنبي، وكذلك الأمر في العرف القانوني، وعليه فإن نزع سلاح المقاومة ليس مسألة قانونية تقنية بحتة، بل مشروع سياسي طبقي استعماري
يتطلب تفكيك المادة 51 منا البحث في مفهوم احتكار الدولة للعنف على اعتباره تشريعًا لقمع المقاومة، وعرضًا لمسألة "الدفاع عن النفس" في القانون الدولي وإسقاطاتها. هذه المادة تقونن احتكار الدولة للعنف المشروع (وفق ماكس فيبر)، وتُقصي الجماعات الثورية والشعوب المستعمَرة من حقّ المقاومة.
استخدمت ذريعة "الدفاع عن النفس" لتبرير الاعتداءات الاستباقية الإمبريالية (أفغانستان، العراق، فلسطين...)، ولتغييب الاعتراف الصريح بحقّ حركات التحرر الوطني في استعمال القوّة، يعني تمييع حقّ تقرير المصير.
رد الاعتبار للعرف الثوري يأتي من ما تشير إليه المادة 1 (4) من البروتوكول الإضافي الأول 1977، رغم هيمنة الخطاب الليبرالي، إذ انتُزع انتصار جزئي من المنظومة القانونية الدولية نفسها، حين اعتبرت المادة أنّ النزاعات المسلحة التي تُقاتل فيها الشعوب ضدّ الهيمنة الاستعمارية، والاحتلال الأجنبي، والسيطرة العنصرية نزاعات مسلحة دولية. أيّ؛ يعترف النص صراحةً بحقّ الشعوب المستعمَرة والمضطهدة في المقاومة المسلّحة، ويضعها في مصاف "الدول"، ويُلزم الاحتلال باحترام قوانين الحرب، ما يشمل المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال الصهيوني، وهو ما أكّدته تقارير عديّدة صادرة عن الأمم المتّحدة نفسها. لذلك من غير المستغرب أن إسرائيل وأميركا لم تُصادقا على البروتوكول، ما يُظهر كيف تُستخدم الشرعية القانونية أداة امتناع انتقائي selective legality.
يمثّل رأي محكمة العدل الدولية في قضية الجدار العازل (2004) اجتهادا لصالح التحرر، رغم القيود، إذ اعتبرت المحكمة بناء الجدار الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، كما ينتهك حقّ تقرير المصير، الذي أشارت إلى أنّه مبدأ من مبادئ jus cogens (القانون الآمر).
يعكس الحكم (رغم طبيعته الاستشارية) تصدّعًا داخل النظام القانوني نفسه، يمكن استغلاله قانونيًا وثوريًا لتعزيز شرعية الكفاح المسلّح، الذي يعتبر ليس "حقًا" فقط، بل "ضرورةً" ضدّ الهيمنة، المقاومة المسلّحة ليست "حقًا قانونيًا" فقط، بل ضرورة مادية لتحطيم البنى الطبقية والإمبريالية المفروضة على الشعوب. فالسلاح ليس أداة للدفاع فقط، بل أداة الانتقال الثوري من وضع التبعية إلى السيادة.
حاليًا؛ يُستخدم القانون أداة لشرعنة القوّة بدلًا من تقييدها، إذ لا يُمكن فصل القانون الدولي عن البنية التحتية الاقتصادية عالميًا، التي تهيمن عليها الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية. فالقانون الدولي، يُستخدم لشرعنة سيطرة الطبقات الحاكمة، وفي هذه الحالة، الدول الإمبريالية الكبرى. أي أنّ القانون الدولي ليس محايدًا، بل هو أداة لضبط الشعوب المقهورة، وترويض حركات التحرر الوطني، عبر تكريس احتكار "الشرعية" لصالح الدول القائمة.
إن مقاومة الشعوب المقهورة، كحال الشعب الفلسطيني، لا تحتاج إلى شهادة "شرعية" من المؤسسات الدولية، فشرعيتها تُستمد من واقع الاضطهاد التاريخي، والتطهير العرقي، والاحتلال. وكل محاولة لنزع سلاح المقاومة هي محاولة لإخضاعها ضمن منطق السوق والهيمنة، وهي خيانة لحقّ تقرير المصير في جوهرها. فيتنام، الجزائر، كوبا، جنوب أفريقيا كلها نماذج لذلك، حيث صُنف المقاومون كـ"إرهابيين" من قِبل الغرب، لكنهم حصلوا على دعم أممي شعبي ونقابي وثوري خارج الأطر الرسمية للقانون.
عُرفْ "عدم شرعية ضم الأراضي بالقوّة" (كما في قرارات الجمعية العامة، كالقرار 2625 عام 1970) يربط مباشرةً بين الاحتلال والقمع، ويُضفي شرعيةً على مقاومة الشعوب المحتلة، على اعتباره دعمًا غير مباشر للمقاومة من قبل القانون العرفي الدولي، على قاعدة التكافؤ بين الوسائل والغاية، إذ يجيز للشعوب المستعمَرة استخدام الوسائل الضرورية لانتزاع استقلالها. هذا العرف؛ رغم تحريّفه لصالح الأقوياء، يمكن إعادة توظيفه بمنظور ثوري يربط بين الكفاحين الوطني والطبقي.
نزع السلاح مطلب لتأمين السلام واستعادة سيطرة الدولة مرتبط بشرط انتهاء الاحتلال، وتحقيق الدولة الفلسطينية القابلة للحياة؛ غير ذلك يعتبر تجريدًا من حقّ المقاومة، وهو حقّ قانوني. الحلّ الجذري لا يمر عبر القانون وحده بل عبر ميزان قوى، منها دعم حقّ الشعوب في أشكال النضال كلها، بما في ذلك المقاومة المسلحة، عندما تفشل السبل السلمية. وإعادة تعريف "الشرعية الدولية" على أساس الحقّ، لا وفق مصالح القوى الإمبريالية. وتعزيز خطاب حقوقي تحرري متجذر في نضالات الجنوب العالمي، لا في مؤسسات الغرب.
سلاح المقاومة ليس جريمة، بل ضرورة تاريخية من منظور نقدي للراهن السياسي القانوني، فإن نزع سلاح المقاومة هو أداة لتجريد الشعوب من حقّها في التغيير الثوري والتحرر الوطني. إذ لا تُمنح الشرعية من المستعمِر، بل تُنتزع انتزاعًا.