جنون السوريين الرقمي... الصورة السينمائية تختصر المشهد
استمع إلى الملخص
- يعاني السوريون من عبء أخلاقي، حيث يشعر من غادروا بذنب الهروب ومن بقوا بذنب البقاء، وتزيد الفقاعة الرقمية من تعقيد الوضع بعزلها المعرفي.
- الحل يكمن في الإصغاء للآخر والاعتراف بالتاريخ المشترك، والعودة إلى "الأرض" المشتركة للتواصل الحقيقي والاعتراف بالتعددية.
شاهدت، قبل أيام، ربما للمرة الرابعة خلال أربعة عقود، فيلم "سولاريس" من إخراج العبقري الروسي أندريه تاركوفسكي الذي حوّل رواية البولندي ستانيسواف ليم من صفتها رواية خيال علمي عن فشل البشرية في التواصل مع ذكاء أكثر تطورا خارج الأرض، إلى سيمفونية سينمائية لاستكشاف مجاهيل الذات الإنسانية.
يعكس الفيلم مواجهة الإنسان لحقيقته وهو يواجه ماضيه بكل ما فيه من آلام وذنوب. في المحطة الفضائية التي تدور حول الكوكب الغامض يجد العلماء أنفسهم أمام زوّار غامضين نكتشف أنهم لم يكونوا سوى تجسّدات لأكثر ذكرياتهم إيلاماً. يجد كريس كالفن نفسه وجهاً لوجه مع زوجته هاري التي سبق أن انتحرت وعادت إليه من عالم غامض لتطرح سؤالاً وجودياً عن معنى الحب والذنب والفقدان. وهكذا وأمام مواجهة حقيقة الذات يصاب العلماء الذين تحملهم المركبة الفضائية بالجنون.
يعاني السوري اليوم من عبء أخلاقي كبير. ثمّة شعور بالذنب يجتاح الجميع، مَنْ غادروا يشعرون بذنب الهروب من المواجهة، ومن بقوا يشعرون بذنب البقاء وأثمانه الباهظة
جوهر فلسفة تاركوفسكي في "سولاريس"، والتي تميزه عن فلسفة ليم، صاحب الرواية الأصلية، أن الإنسان لا يستطيع الهروب من مسؤوليته الأخلاقية تجاه ماضيه، والمحيط الغامض ليس كائناً يقرأ الأفكار، بل هو كيان يجسد عقدة الذنب العصية على الحل. عودة هاري إلى كالفن تجسيد عبقري للندم والحاجة إلى التطهير. إنها اختبار قاسٍ لقدرة الإنسان على التضحية وقبول العواقب، حتى لو كانت هذه العواقب على شكل "ضيف" غير مرغوب فيه.
تكاد هذه الصورة السينمائية تختصر ما يعيشه السوريون حالياً بعد أكثر من 15 عاماً من الثورة والحرب والدمار، والأمر لا يقتصر على المأساة الإنسانية المرتبطة بالمجازر والاعتقال والتهجير، بل على مستوى طبيعة الوعي وطرائق التعامل مع الواقع. لكل سوري، خصوصاً سوريي المهاجر، الآن "سولاريس" خاص به... هذا الـ "سورلاريس" محيطٌ غامضُ يعيد إليه صوراً لا تنسى: بيوت مهدّمة، أصدقاء غابوا في المعتقلات أو المنافي، وطفولة تبعثرت بين المخيمات والحدود. بينما يواجه الداخل سوري زائره يومياً بهموم من نوع آخر: انقطاع الكهرباء وفقدان الدواء ومشكلات الحصول على وقود الحياة، تآكل القوة الشرائية، وأحياء ومدن مدمّرة تشهد على هول الكارثة.
يعاني السوري اليوم من عبء أخلاقي كبير. ثمّة شعور بالذنب يجتاح الجميع، مَنْ غادروا يشعرون في دواخلهم السحيقة بذنب الهروب من المواجهة، ومن بقوا يشعرون بذنب البقاء وما ترتب عليه من أثمان باهظة. يتحوّل هذا الشعور إلى زائر داخلي يطالب بتبرير الغياب أو البقاء والتقاعس.
كل السوريين اضطرّوا لاتخاذ خيارات صعبة، كالهجرة، أو الصمت، أو الانحياز، أو محاولة الحياد المستحيل. والآن تأتي الفقاعة الرقمية لتعتقلهم داخل غطائها الكتيم. وكما شكك العلماء على متن المحطة الفضائية في فيلم "سولاريس" بحقيقة زوارهم، يتشكك السوريون اليوم بكل شيء يصدر عن الخصم: ما أراه ليس حقيقيا؟ هذه الصورة مفبركة؟ هذه الرواية كاذبة؟ وهكذا يصبح التشكيك بالخصم وشيطنته المبدأ الحاكم للعلاقات بين المخالفين، وهذا لعمري أولى درجات الجنون.
سبب الفشل في المحطة الفضائية في فيلم "سولاريس" الغباء الأخلاقي للعلماء. وفي الواقع السوري، يتجسّد الفشل في استحالة الوصول إلى رؤية مشتركة، وهو نتاج للغباء الرقمي الذي تفرضه فقّاعات شبكات التواصل الإعلامي.
وكما جعل "سولاريس" العلماء يفقدون التمييز بين الحقيقة والوهم، جعلت الفقاعة الرقمية السوريين يواجهون عالماً مشوّشاً من السرديات المتناقضة. لكل فئة فقاعة خاصة بها: مؤيدو السلطة الحالية يرون في كل نقدٍ مؤامرة، والمعارضون يرون في كل خبر نصراً مؤجّلاً لهم، حتى وإن كان بحجم زيارة الأمم المتحدة، ستفضي إلى اعتقال "الرئيس الانتقالي"، أو تفتيش الوفد. وبين هذا وذاك، تتشكل فقاعات أصغر حول الانتماءات الطائفية والمناطقية والأيديولوجية. هي في حقيقة الأمر جدران عازلة تمنع الحوار، وتصم كل من يحاول اختراق الفقاعة بالخيانة أو العمالة أو الانفصال عن الواقع.
أمام هذا الواقع العجيب؛ لا يجد السوري الذي يحاول طرح أفكاره أو شرح معاناته آذاناً إلا داخل فقّاعة تؤكد روايته وتغلق الباب على أي سردية أخرى
المواقف الحدّية هي وقود الخوارزميات. والخوارزميات لا تبحث عن الحقيقة، بل الحقيقة لا تعنيها، ما يعنيها أقصى درجات التفاعل الذي يحقق لها الربح، والذي يترجم غالباً إلى غضب، والغضب هو أقرب المشاعر إلى المرحلة البهيمية من تاريخ البشرية، والخوارزمية تكافئ المنشورات التي تثير النقمة وتؤجّج الصراع. ومن أجل هذا تتحوّل المأساة إلى مادّة للاستهلاك السريع: صورة صادمة، أو تعليق ساخر، أو شتيمة، يتلاشى الواقع المعقد في ضجيجها الرقمي.
أمام هذا الواقع العجيب؛ لا يجد السوري الذي يحاول طرح أفكاره أو شرح معاناته آذاناً إلا داخل فقّاعة تؤكد روايته وتغلق الباب على أي سردية أخرى. وهنا الجنون الحقيقي، جنون الاعتقاد بأن صدى صوتك هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم. وهو يعني، في ما يعنيه؛ تبلُّد العواطف، وفقدان القدرة على التخيّل، تلك الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان عن الحيوان، والتي أراد تاركوفسكي أن يركز عليها. وهكذا تحوّلت المأساة السورية إلى محيط هائل يشبه "سولاريس" تاركوفسكي، محيط يعكس عقدنا كافة ويجعلنا نعيش داخل معازلنا الرقمية التي تؤدي بنا إلى الجنون المعرفي.
والحل؛ أين الخلاص من ذلك؟ مؤكّدٌ أن الخلاص لن يأتي من الصراخ داخل الفقاعة، ولا من الإمعان في شيطنة السوري الآخر. الخلاص يبدأ من الإصغاء للخصم، والتعامل مع روايته بجدية مهما كانت مزعجة، وأن يتذكر الجميع أن سورية ليست ملكاً لرؤية واحدة ولا لفئة واحدة، بل هي أرض لجميع السوريين.
إذا كان فيلم "سولاريس" قد أعاد كالفن، في النهاية، إلى الأرض ليجد فيها معنى الخلاص بعودة التواصل الحقيقي مع العالم المعيش، فإن السوريين لن يجدوا خلاصهم إلا في عودة رمزية إلى أرضهم المشتركة: إلى الحقيقة المتعدّدة التي تعترف بألم الآخر، وبالتاريخ من دون أن تزوّره، وبالاختلاف من دون أن تصمه بالخيانة.
إن لم نعد إلى "الأرض" سنظل غرقى في محيط الفقاعات حتى الجنون. وإن لم نحطّم جدران الفقاعات التي تردّد أصواتنا، سنبقى نتحدّث مع أنفسنا كالمجانين.