استمع إلى الملخص
- التحديات الإقليمية والدولية: تواجه السياسة الأميركية تحديات في احتواء تداعيات السياسات الإسرائيلية، مع تصعيد نتنياهو غير المحسوب الذي يهدد بفوضى إقليمية ويزيد من احتمالات انتشار البرامج النووية.
- التأثيرات الداخلية والخارجية: تتزايد الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة، مما يضعف السياسة الخارجية ويزيد الضغوط لتغيير النهج تجاه فلسطين، مع تصاعد المظاهرات العالمية وتفاعل النخب الثقافية والفنية.
بعيدًا عن احتمال حصول "تغير طفيف" في خطاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، ثمّة مؤشرات تفيد باستمرارية سياسات واشنطن في دعم حليفها الإسرائيلي في هذه الحرب، التي قد تدخل مرحلةً أكثر خطورةً وعدوانيةً على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي.
في إطار تحليل مستجدات السياسة الأميركية تجاه حرب غزّة، وقضية فلسطين، وإقليم الشرق الأوسط عمومًا، وانعكاساتها على العلاقة مع الحليف الإسرائيلي، يمكن التوقّف عند ثلاث ملاحظات؛ أوّلاها، أهمية التمييز بين "التغير الجزئي" في الخطاب الأميركي، وبين استمرارية السياسة الخارجية الأميركية؛ التي تلجأ إلى "تغييرات جزئية" في خطابها، بغّية احتواء الغضب العالمي من السياسات الأميركية/الإسرائيلية، علمًا أنّ هذه "الحيلة الدبلوماسية" (أي تغيير الخطاب)، ليست من اختراع إدارة ترامب؛ إذ وصف الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، في خطابه عن حالة الاتّحاد (2024/3/7)؛ ما يحدث في غزّة بـ"المفجع"، بعد مقتل أكثر من 30 ألف فلسطيني خلال الحرب، ناهيك عن مطالبته في الخطاب نفسه القادة الإسرائيليين بـ"عدم عرقلة المساعدات الإنسانية للفلسطينيين لأغراض سياسية".
بيد أنّ هذه "اللفتة الخطابية" لم تؤدِ إلى تغيير توجه دعم إسرائيل؛ إذ منعت إدارة بايدن مجلس الأمن من التعامل مع حرب غزّة خارج إطار ما تريده؛ فقد امتنعت واشنطن عن التصويت على قرار المجلس رقم 2728 في (2024/3/25) بشأن وقف إطلاق النار الفوري في غزّة خلال شهر رمضان. كما مرّرت واشنطن القرار رقم 2735 في (2024/6/10)، الذي يستكمل إعلان بايدن في (2024/5/31) عن وقف نهائي للحرب عبر ثلاث مراحل، وذلك للتغطية على جرائم إسرائيل، ومنحها "وقتًا أطول" لتحقيق أهداف الحرب.
تتعلّق الملاحظة الثالثة بصعوبة تغيّر السياسة الأميركية، في المدى المنظور، تجاه حرب غزّة، وقضية فلسطين عمومًا، ما يعني ترجيح استمرار واشنطن في دعم سياسة إسرائيل في استهداف قوى المقاومة الفلسطينية
في السياق نفسه، يمكن فهم تصريحات ترامب لموقع دايلي كولر في (2025/9/1)، حول "خسارة إسرائيل معركة العلاقات العامة، وفقدانها نفوذها في الكونغرس"، وذلك في إطار "احتواء" تفاقم تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية على الصعيدين العالمي والأميركي الداخلي، خصوصًا تجويع أهالي غزّة، وإصرار الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو على احتلال مدينة غزّة نفسها، بحثًا عن صورة "النصر المطلق"؛ إذ يبدو واضحًا حشد واشنطن قدراتها، بغّية وقف "عولمة" القضية الفلسطينية، وكذا بهدف التأثير على توجهات جيل الشباب الأميركي (Z Generation)؛ إذ خسر اللوبي الصهيوني وحلفاؤه في الولايات المتّحدة هذا الجيل الأقلّ تحيزًا لإسرائيل، إذ ينظر كثيرٌ من الشباب التقدميين في الحزب الديمقراطي إلى الاحتجاجات ضدّ إسرائيل بوصفها جزءًا من النضال من أجل العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة.
بالرغم من الفروق الطفيفة بين الخطاب الأميركي في عهدي ترامب وبايدن تجاه قضية فلسطين، ثمّة حرص واضح على ثلاثة أمور؛ أولها احتكار واشنطن إدارة ملف التفاوض بشأن التوصل إلى هدنة في قطاع غزّة، خصوصًا مسألة تحرير المحتجزين الإسرائيليين. وثانيها، الهيمنة الأميركية/ الإسرائيلية على ملف دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وثالثها، إصرار واشنطن على إنقاذ إسرائيل، ونتنياهو شخصيًّا، من مأزقهما المتصاعد، في حرب غزّة خصوصًا، ومع الشعب الفلسطيني عمومًا.
في السياق ذاته، من الملاحظ أن كلّ زيارة يقوم بها نتنياهو إلى الولايات المتّحدة يتلوها تصعيد عسكري ملحوظ، سواء على الصعيد الفلسطيني أم الإقليمي، ما يعني نجاح مناورات نتنياهو في تصعيد حرب غزّة، بالتوازي مع توظيفه الدعم الأميركي في تكتيكاته التفاوضية لتحرير المحتجزين، قبل استكمال تنفيذ خطط تهجير أهالي غزّة عبر كلّ أدوات الضغط المتاحة (العسكرية، والنفسية، واستخدام التجويع سلاحًا سياسيًّا، وتكثيف المجازر بحق المدنيين العزل، وصولًا إلى قصف الأبراج السكنية في غزّة)، بغّية تدمير كلّ البنية الحضرية والمنشآت الحيوية والطبية، كي يضطر الناس إلى النزوح القسري في نهاية المطاف.
تتعلّق الملاحظة الثانية بقدرة واشنطن على "احتواء" تداعيات السياسات الإسرائيلية، سواء على الصعيد الفلسطيني أم الإقليمي أم الدولي؛ إذ يبدو أن فشل نتنياهو في "الحسم العسكري" في غزّة وإقليم الشرق الأوسط عمومًا، يضطره إلى "مقامرات" أو "تصعيد غير محسوب النتائج"، قد يفضي إلى سيناريو "فوضى إقليمية شاملة"، ما يؤدّي في المحصلة إلى تعميق المأزق الاستراتيجي الإسرائيلي، وربّما تشجيع انتشار البرامج النووية السلمية، مع تصاعد احتمالات تحوّل بعضها إلى برامج عسكرية، ما دام منطق المنظور الواقعي في العلاقات الدولية يقول باستحالة استمرار الاحتكار النووي الإسرائيلي في الإقليم، في ظلّ استمرار إسرائيل في تعريف أمنها بأنّه "أمن مطلق"؛ بمعنى أنّه لا يتحقق إلّا على حساب دول الإقليم وشعوبها كلّها؛ إذ تنتهج إسرائيل في السياق هذا سياسة "خلق الفوضى/ الأزمات الإقليمية"، و"تصدير الأزمات الإسرائيلية الداخلية إلى الخارج"، بدايةً من السياق الفلسطيني، حيث محاولة القضاء على دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وتشجيع أدوار ميليشيات خارجة عن القانون (ياسر أبو شباب نموذجًا)، مرورًا بتداعيات الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران، التي عزّزت محرّكات الصراع الإقليمي، بالتوازي مع استمرار المعضلة الأمنية (Security Dilemma)، في نظام إقليمي يتسم بالتنافس الشديد، والتشابكات المعقّدة مع النظام الدولي، وانتهاءً بالاستهداف إسرائيل الدوحة في (2025/9/9)، الذي أدّى إلى تغيير البيئة الأمنية الاستراتيجية في الخليج العربي على نحو دفع السعودية وباكستان إلى توقيع "اتّفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك" في (2025/9/17) خلال زيارة رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف إلى الرياض.
تتعلّق الملاحظة الثالثة بصعوبة تغيّر السياسة الأميركية، في المدى المنظور، تجاه حرب غزّة، وقضية فلسطين عمومًا، ما يعني ترجيح استمرار واشنطن في دعم سياسة إسرائيل في استهداف قوى المقاومة الفلسطينية، خصوصًا حركة حماس، بالتوازي مع العمل على إدخال البعدين العربي والدولي، في إعادة دمج قطاع غزّة ضمن المشروعات الاستثمارية والعقارية الأميركية (ريفيرا الشرق الأوسط)، على نحو يُعزز سياسة واشنطن في دعم مسار التطبيع الإقليمي الإسرائيلي وتفعيل اتّفاقات إبراهام، تمهيدًا لدعم فرص ترامب في نيل جائزة نوبل للسلام.
بالرغم من توقع استمرار جوهر المقاربة الأميركية تجاه قضية فلسطين، فإنّ هناك عوامل يمكنها التأثير على هذه المقاربة؛ أوّلها؛ تزايد الانقسامات الداخلية الأميركية على نحو يضعف سياسة ترامب الخارجية، وربّما يدفع إلى إقالة بعض المسؤولين (مثل شاهد قريشي المسؤول الإعلاميّ المكلف بالشؤون الإسرائيلية الفلسطينية في وزارة الخارجية)، أو تزايد الاعترافات الأميركية بالإبادة الجماعية في غزّة (مثل تغريدة مارغوري تايلور غرين، عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، بأنّها لن "تلتزم الصمت" حيال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة بأموال دافعي الضرائب الأميركيين عبر منصة إكس في 2025/8/23). ثانيها، عجز واشنطن عن "احتواء" تداعيات سيناريو "الفوضى الإقليمي"، الذي تأخذ إسرائيل المنطقة إليه. ثالثها، تصاعد المظاهرات العالمية وتزايد تفاعل النخب الثقافية والفنية والرياضية على نحو يزيد الشروخ بين مواقف بعض الدول الأوروبية من جهة، والمواقف الأميركية والألمانية والمجرية من جهة أخرى، بشأن عزل إسرائيل ومعاقبتها. رابعها، استمرار تماسك العامل الذاتي الفلسطيني، وفشل حرب الإبادة في تهجير الفلسطينيين، ما يضطر واشنطن إلى تفعيل الوساطة القطرية المصرية بحثًا عن مخرج من الحرب.
بالرغم من الفروق الطفيفة بين الخطاب الأميركي في عهدي ترامب وبايدن تجاه قضية فلسطين، ثمّة حرص واضح على ثلاثة أمور؛ أولها احتكار واشنطن إدارة ملف التفاوض بشأن التوصل إلى هدنة في قطاع غزّة
يبقى القول إن إفراط واشنطن في توظيف تكتيكات تغيير الخطاب وتحسين الصورة واستخدام التفاوض غطاءً لإطلاق يد إسرائيل، فلسطينيًّا وإقليميًّا، يضع مصداقية الولايات المتحدة على المحك، وربما يفقدها حلفاءها في المنطقة، خصوصًا في الخليج العربي.